لم يعرف تاريخ البحرين مفهوم المواطنة، كما لم يعرفه تاريخ كل المجتمعات العربية والإسلامية. ومثل كل البلدان العربية والإسلامية لم يستشعر التاريخ البحريني الحاجة إلى تنمية صيغة جديدة من الانتماء السياسي والثقافي القائم على مجموعة شروط تحدد من هو البحريني ومن هو غير البحريني. غير أن هذه الحاجة ظهرت في العصر الحديث مع بناء الدولة الحديثة، وما فرضه هذا البناء من تغيير في المواقع والعلاقات السياسية بين الحاكم والمحكوم وتحديد أدوار كل طرف. وفي هذا السياق أيضاً ظهرت الحاجة إلى تعريف البحريني وتمييزه عن الأجنبي من رعايا الدول الأخرى. ولما صار كل هذا ضرورياً ابتكرت المخيلة البحرينية صفة «الوطني» لتعريف البحريني.
والوطني هنا كالمواطن صيغة لغوية مستحدثة، وهي هنا نسبة إلى الوطن لا للوطنية، فالوطني إذاً تسمية مجردة من أية دلالة إيجابية، وهي لا تنطوي على أية دلالة أكثر من الإشارة إلى البحريني كفرد من أهالي البحرين تمييزاً له عن الأجنبي تماماً، كما يتحدث الرياضيون اليوم عن «مدرب وطني»، والصناعيون عن «منتج وطني»، والاقتصاديون عن «بنك وطني». فوطني هنا لا تحمل معاني الوطنية بل مجرد الإشارة إلى أن المدرب أو المنتج أو البنك محلي لا أكثر ولا أقل.
وفي وضع كهذا لم يكن المرء مضطراً إلى السعي للحصول على وثيقة رسمية ليثبت أنه بحريني، لأن كونه بحرينياً مثبت سلفاً في كونه من مواليد البحرين أو ممن سكنوا فيها، وهذه هي الدلالة القديمة للوطن، فكل الذي حصل هو أنه جرى إضافة «ياء النسبة» إلى الوطن فصار المنسوب إلى هذا الوطن المخصوص «وطنيا». ومعنى هذا أن «البحريني» مجرد تسمية لوضع أولي قائم سلفاً، فكل الذي حصل أنك أطلقت الاسم على مسماه الموجود سلفاً الذي تقوم عليه دلائل اللهجة والهيئة والمميزات الثقافية الأخرى.
إلا أن كل هذا تغير يوم حل المواطن البحريني محل الوطني البحريني، وصارت وثيقة الجنسية أهم من كل دلائل اللهجة والهيئة البحرينية، وهنا صار نعت «البحريني» ينطبق على من يتمتع بالجنسية البحرينية فقط. وهنا لم تعد كلمة «بحريني» مجرد تسمية لاحقة غرضها تقرير وضع قائم سلفاً، ولا هي مجرد إطلاق الاسم على مسماه، بل صار لهذه الكلمة مفعولاً سحرياً قادراً على تحويل غير البحريني إلى «بحريني»، وكذلك تحويل «البحريني» إلى غير بحريني. وصار «البحريني» هو من تمر عليه هذه العصا السحرية التي تقول للمرء كن بحرينياً فيكون. لقد صارت وثيقة الجنسية هي من يحدد من هو «بحريني» ومن هو غير بحريني.
وهذه الوثيقة تعطى وتسحب بشروط محددة في الدستور وقانون الجنسية. وبحسب قانون الجنسية البحرينية للعام فإن البحريني ليس وصفاً لحال قائمة سلفا، بل هو اعتراف رسمي وقانوني من الدولة بكون المرء بحرينياً، وهو يكون كذلك إذا - وفقط إذا - حصل المرء على الجنسية البحرينية بالشروط المقررة في القانون. والجنسية هذه مجرد رابطة سياسية وقانونية بين الفرد والدولة، ويجري بموجبها انتماء الفرد إلى الدولة وتمتعه بحقوق المواطنة بشروط محددة أو حتى من دون شروط، وكذلك تلزمه بالولاء لها. وهي رابطة غير ضرورية بل قد تتعرض للتفكك عندما تسحب الجنسية من حاملها.
ولكن حين صارت الرابطة بين المرء ووطنه محددة برابطة الجنسية فقط، وحين صارت الجنسية هي دليل الإثبات الوحيد على الانتماء، عندئذ صار للوطن معنى آخر، وللمواطنة دلالة مختلفة. فالجنسية كرابطة سياسية وقانونية لا تفترض بالضرورة معنى الوطن كقطعة من القلب، وهي لا تقوم بالضرورة على حب الوطن والحنين إليه كما في دلالة الوطن القديمة، ولأن المشاعر والعواطف تولد بصورة تلقائية وهي لا تستجيب لأي محددات قانونية كرابطة الجنسية التي تعطى وتسحب طبقاً لمقتضيات سياسية وقانونية.
وحين جرى هذا التحوال وقادت الجنسية إلى تفكك الرابطة النفسية بين المرء ووطنه، صار الوطن قطعة من الكعك يجري التنافس عليها، وصارت الجنسية مجرد بوابة تسمح للمرء صاحب الجنسية بالدخول إلى ميدان التنافس على هذه الكعكة، فضلاً عن أن هذه الجنسية صارت اليوم موضوعاً للتنافس ككعكة الوطن تماماً. فهناك كثيرون يسيل لعابهم من أجل الحصول على هذه الجنسية - الكنز.
وفي القانون الدولي والتطبيقات القضائية هناك مبدأ يعرف بـ «الجنسية الفعلية» وهي الجنسية التي يعيشها الشخص فعلاً وواقعاً بين الجنسيات التي يحملها. فإذا كانت الجنسية مجرد رابطة قانونية وسياسية ينتمي الفرد بمقتضاها إلى دولة معينة، فإن الجنسية الفعلية هي معيار التفرقة بين المواطنين والأجانب لأنها تقوم على الشعور بالولاء والإحساس بالانتماء إلى دولة معينة. ومعنى هذا أن الجنسية لا تقوم على أساس قانوني فحسب، بل على أساس معنوي هو الحب والارتباط الفعلي.
وهذا أساس لا يتجزأ بين أكثر من دولة، بل إن رابطة الجنسية تعطي الحق للدولة في مطالبة مواطنيها بجملة من الواجبات تصل إلى حد التضحية بالنفس، فإذا كان الحال كذلك فإن حمل الشخص جنسيتين أو أكثر يعني أنه يحمل جنسية دولة لا يشعر تجاهها بالارتباط الفعلي والواقعي. ومن لا يشعر تجاه الدولة التي يحمل جنسيتها بالارتباط الفعلي والواقعي فإنه بالضرورة لن يرتبط بها برباط الحب ولن يمنعه مانع معنوي عن القيام بأي فعل تجاه هذه الدولة وشعبها... وعلينا هنا أن نتذكر قول الخليفة عمر بن الخطاب: «عمر الله البلدان بحب الأوطان». وكان يقال: «لولا حب الناس للأوطان لخسرت البلدان». وعلى هذا فلا يحمي الوطن من أن يكون قطعة من الكعك يتنافس عليها الجميع إلا أن يكون الوطن قطعة من القلب لا قطعة من الورق كوثيقة الجنسية
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 1488 - الإثنين 02 أكتوبر 2006م الموافق 09 رمضان 1427هـ