عجيب أمر بعض وسائل الإعلام العربية والقوى السياسية، مدفوعة اما بغرض سياسي واما بسبب نقص مهني ذريع، تسارع إلى نقل ما تنشره الصحافة الإسرائيلية وكأنه حقيقة لا يرقى إليها الشك، وخصوصا في أمر الاتصال بالعرب دولاً أو أفراداً. وقد حدث ذلك في الأسبوع الماضي باتجاهين، الأول ما نقل عن اتصال بين رئيس الوزراء اللبناني فؤاد السنيورة، تبين انه كان رغبة من رئيس الوزراء الإسرائيلي لا غير، وليس حقيقة على الأرض. والثاني «إشاعة» صحفية إسرائيلية تقول إن اتصالا حدث على أعلى المستويات بين المملكة العربية السعودية وبين مسئولين إسرائيليين، تبين بعدها بيقين أنها «فبركة» إعلامية إسرائيلية، بعد أن نشرت على نطاق واسع في إعلامنا العربي. من هذه الفبركة أيضا ما أشيع وتناقل على نطاق واسع قبل فترة أن «إسرائيل» تفضل بقاء النظام السوري الحالي، لأنه أفضل لها من أي نظام آخر يحل في دمشق، وهو أمر انطلق من نتف في تقارير ليصبح حقيقة ترددها الألسن والكتابات من دون إعمال عقل. تلك أمثلة تنم عن الوقوع في الشرك.
ليس المراد هنا مناقشة ما تريد «إسرائيل» بثه أو ما لا تريد، المناقشة هنا منصبة على ثنائية لدى بعض القوى السياسية العربية فيما تصدقه وتشيعه، أو ترفضه وتستهجنه، وهو موقف ملفت للنظر ويحتاج إلى وقفة تأمل.
هناك عدد من الافتراضات متناقضة، فمجرد ما أن ينشر خبر في الصحافة الإسرائيلية يدعي بان اتصالا حدث بين دولة عربية و«إسرائيل»، وخصوصاً دولة من دول الممانعة، فإن قوى سياسية وإعلامية عربية تتلقف مثل هذه الأخبار وتعتبرها حقيقة لا يرقى إليها الشك، وعلى المتضرر بيان خلاف ذلك! أما في قضايا أخرى، فإن تلك الدوائر السياسية بعينها تعترف على الملأ أن «(إسرائيل) عدوة» وأن «هناك رقابة إعلامية على ما يصدر من (إسرائيل) من أخبار» وأن «هناك دساً إعلامياً مقصوداً» ! فكيف يمكن أن يتوازن الاستشهاد بما يصدر في حق الغير في الإعلام الإسرائيلي خصوصاً إن كان سلبيا، على انه حقيقي ونهائي، وما يصدر في حق تلك الدوائر من أخبار بأنها إشاعات كاذبة؟ تلك ثنائية تستحق التفكير.
قليلة، بل نادرة هي تلك الاتصالات الدولية بين الدول، التي تبقى في طي الكتمان، ولا توجد دولة عربية اليوم لها علاقة بـ «إسرائيل» مباشرة أو تحت مسميات مختلفة، إلا وقد أعلنت تلك العلاقة وأصبحت معروفة للجميع.
ولا يستطيع أحد اليوم في هذا الفضاء التواصلي العالمي المشاهد، إلا ويعرف أن كل ما يمكن بحثه بين دولتين بشكل رسمي أو شبه رسمي خلف أبواب مغلقة، تعرف به قوى ومؤسسات دولية مختلفة في لحظة وقوعه أو بعدها بقليل، ما خفي هو ما لم يحدث قط.
وفي مقال ملفت كتبه السفير البريطاني السابق في أوزبكستان كريج موري، ونشر على شبكة الانترنت العالمية وفي أماكن أخرى، يروي فيه كيف أن وكالة المخابرات البريطانية قد استمرأت أن تنقل من مروج إشاعات معروف وناقل لأكاذيب قصص على مستوى رفيع من الأهمية في البلد الذي يعمل به كسفير، على أنها حقائق مطلقة لا يرقى إليها الشك، مع علمه الأكيد أنها مجرد إشاعات لا غير! المهم في الأمر، كما يروي السفير أن الأوساط الرسمية في بلاده رغبت في أن تصدق تلك الإشاعات، على رغم نفيه لها من موقع أكثر قربا واطلاعا.
في الحرب الإسرائيلية مع حزب الله في لبنان صيف هذا العام، ظهرت مجموعة من أخبار الترويج الإعلامي الإسرائيلي، قال بعضها، إن بعض الدول العربية وبعض الشخصيات العربية النافذة قد اتصلت بـ «إسرائيل» مباركة لمثل هذا العدوان. وصدق من يريد أن يصدق في الجانب العربي مثل ذلك الترويج على أنها حقائق ورددها أمام جمهوره، واستخدمها في اعلامه المرئي والمسموع لإدانة تلك الجهة أو هذه، في الوقت الذي ينفي بشدة ما تناقلته وسائل إعلام إسرائيلية مثلا عن انتصار لها وهزيمة لحزب الله.
المقصود هنا هذه الانتقائية في التصديق والتكذيب، نصدق ما يرد إلينا على انه إدانة لمخالف سياسي، ونكذب ما يرد في حقنا، ربما عن حقائق، لان مصدره هو العدو.
لا يستطيع عاقل أن يغفل أن «إسرائيل» بكل قدرتها الإعلامية هي ليست غافلة عن استخدام مثل تلك الأدوات الإعلامية لتحقيق أغراض ما، إما للضغط على شخصيات ودول، أو ابتزازها، أو ترويج فكرة يراد لها أن تروج. فالمعروف أن هناك فناً إعلامياً يسمى «الترويج الكاذب» له قواعده وأصوله، ويبنى على دراسات نفسية واجتماعية. هذا أيضا لا يعني أن جميع ما يكتب وينشر في «إسرائيل» هو محض افتراء وكذب، إلا أن بيت القصيد هنا هو وجوب احترام العقل وتمحيص الحقائق.
ما يساعد على الضبابية في هذا الأمر ضعف حقيقي في المهنية الإعلامية العربية، هذا إذا استبعدنا للحظة التوظيف السياسي المقصود من بعض القوى العربية. فكثيرا ما ينقل الإعلام العربي ما يأتيه من مجرى إعلامي متدفق وهائل من دون تمحيص، فيقوم بنشر الإشاعات من دون أن يزنها بعقل راجح.
الحروب عادة ما يصاحبها إعلام يريد أن يزين الخبيث أو يخبث الصالح، وقد قيل أن أول ضحية تسقط في الحرب هي الحقيقة، ذلك أمر أصبح معروفا ولا يحتاج إلى تعريف. أما إذا أضيف إليه نقص فادح في المهنية، وضعف في أخلاقيات الاختلاف، وجمهور على استعداد أن يصدق ما يرد إليه من دون تفكير، تحول كل ذلك إلى تضليل مقصود.
قد لا يتبين البعض فرقعة الحرب الإعلامية التي تدور من حولنا، وهي حرب ضروس، لا يهمها كم من الضحايا تسقط في ساحتها، ولا كم من الموارد تضيعها، المهم أن تغسل عقول العامة من الناس.
ويزداد تأثير مثل هذه الحرب ان وقعت على عقول ترغب في أن تسمع ما تريد أن تسمعه، وغير مدربة على التمحيص والمراجعة وفهم المقاصد الكلية خلف تلك الاخبار. ومن ثم تتحول إلى حقائق ثابتة في العقول يبنى عليها الكثير من الأحكام المطلقة والنهائية، وتقود في النهاية إلى تدمير أقسى من تدمير الحروب
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 1488 - الإثنين 02 أكتوبر 2006م الموافق 09 رمضان 1427هـ