نشرت صحيفة «الحياة» الثلثاء الماضي تقريراً طريفاً أسفل صفحتها الأولى عما كانت تقوم به الشرطة الفرنسية من «كتابة تقارير» عن الأدباء الفرنسيين من أيام فيكتور هوغو وآرتور رامبو وبول فيرلين.
التقرير هو حصيلة جهود برونو فوليني، الذي كان يعد بحوثاً منذ عشر سنوات عن اللصوص من خلال أرشيفات الشرطة، فاكتشف أن الشرطة كانت تراقب كبار أدباء فرنسا أسوةً بالمجرمين! وهو بذلك يستحق عن جدارةٍ لقب «بندر فرنسا»!
«كتبة التقارير» والمخبرون لم يكتفوا بإيراد نوعية الأطباق التي كان يتناولها الأديب ومن شاركوه طعامه، وما دار بينهم من حديث، بل أعطوا لأنفسهم الحق في تصنيف كبار الأدباء والشعراء، فوصفوا بعضهم بالعباقرة وصفوا بعضهم بعديمي الموهبة! وكان رئيس جهاز الشرطة المركزي يتباهى بقوله: «أخيراً أصبح لكل شخص في باريس ملف». وهكذا توسّعت «الخلايا» و«الشبكات» في أعمالها التجسسية على عباد الله الفرنسيين!
المعلومات الغزيرة كانت تتدفق كالشلالات عبر طابور طويل من العملاء: مخبرين رسميين، (يعني شغلتهم الأصلية قراريص)، وأحياناً متعاونين (بالقطعة) يتسلّمون مكافآتهم شهرياً من تحت طاولة رئيس الشرطة! وهناك أشكالٌ أخرى من الجواسيس: خدمٌ يقدمون إليك القهوة ويتنصتون على أحاديثك مع جلسائك في المقهى! جرى كل ذلك في زمن الجمهورية () والله يستر... لو رجع فوليني إلى عهد الإقطاع والملكية المطلقة و«أمن الدولة»، لاكتشف مؤامراتٍ لقلب نظام الحكم باستخدام (غراش البيبسي)، وانقلابات يشترك فيها «حزب الله» الفرنسي و«حماس» وتشافيز!
على أن صاحب نصيب الأسد من التقارير هو فيكتور هوغو، الذي لم يحمه من التعرّض للتجسس كونه يشغل منصبَ عضوٍ في مجلس الشيوخ، فقد ملأت ملفاته ثلاثة صناديق، (خياش ما شاء الله!) تتحدث بالتفصيل عن أفكاره وشخصيته... وحتى بخله!
في المقابل، كانت هناك تقارير أخرى «غير بندرية» (من فبركة الخلايا الهامدة المستوردة من الخارج) تستخدم لتفادي فضائح تطول أشخاصاً مقرّبين من قائد الشرطة، كما حصل مع الكاتبة كوليت التي أخضعت إلى ضغوط شديدة لمنعها من نشر رسائل تلقاها زوجها من عشيقة برجوازية ذات اسم في المجتمع، لئلا تهتز صورتها في عيون المواطنين، لأنها كانت امرأة «صالحة» تدعم الأعمال الخيرية والجمعيات الدينية ومعروفة بالولاء المطلق!
طبعاً تقرير البندر الفرنسي سبّب صدمةً كبيرةً للفرنسيين، إذ نسف تلك التصورات الساذجة بأن بعض النافذين يحبون الناس كما يقولون، وانهم يعملون فعلاً على رفاهية المواطنين بدل التجسّس عليهم وبهدلتهم واستيراد مواطني دول أخرى لتجنيسهم محلهم!
وحين سئل بندر فرنسا (فوليني): بصفتك كاتباً... هل تشعر أن المراقبة لاتزال قائمة والخلية مازالت موجودة؟ أجاب: «الملفت في الملفات هو حجمها وكمية التقارير فيها، (يمكن تقريرهم يزيد على صفحة!)، وطبعاً إعدادها كان يتطلب الكثير من الوقت في تلك الفترة، (شغل شدّان)، أما التكنولوجيا الحديثة فجعلت هذه المراقبة أسهل وأبسط» (هاتف وموبايل و«سويتشات» وطاولات)!
طبعاً كانت الخلايا كلها فرنسية أباً عن جد، ولم تتم الاستعانة بمجموعة صحافية ألمانية لنشر المقالات التي تزيد الاحتقان الطائفي. ولم يتم استيراد مجموعة مخابراتية روسية لدراسة حركات المعارضة والتضييق على أنفاسها، ولم يتم تكليف مدرّس جامعي التجسس على المراسلات الالكترونية في الجامعة، وإعطائه دينار فرنسي لوضع خطة شيطانية لتشطير المجتمع الفرنسي طائفياً!
هوّنوا عليكم، فلستم وحدكم، فالجواسيس و(القراريص) موجودون في كل مكان، فحتى في فرنسا... كثير من «البنادير»
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1487 - الأحد 01 أكتوبر 2006م الموافق 08 رمضان 1427هـ