تتميز مملكة البحرين عن غيرها من دول مجلس التعاون الخليجي بقدم وكثرة التقارير والدراسات المتعلقة بالوضع المائي، وخصوصاً تلك المتعلقة بالمياه الجوفية، إذ يرجع تاريخ أول دراسة متعلقة بالمياه إلى عقد العشرينات من القرن الماضي، كما يرجع تاريخ أول الدراسات التي حذرت من خطورة وضع المياه الجوفية في البحرين وضرورة اتخاذ الإجراءات اللازمة للحد من تدهورها إلى العام وقامت بها شركة نفط البحرين، وأشارت الدراسة إلى ظاهرة هبوط مستويات المياه الجوفية المستمر في بعض مناطق جزر البحرين. ولحقت هذه الدراسة دراسة أخرى في العام تم فيها أول حصر لآبار المياه الجوفية وأكدت ظاهرة هبوط المستويات المائية في جميع مناطق البحرين وجفاف بعض العيون الطبيعية، وأوصت الدراسة بضرورة المراقبة المستمرة لمستوى ونوعية المياه الجوفية من خلال شبكة مراقبة ثابتة. وفي العام قامت شركة نفط البحرين بدراسة جيولوجية الخزان الجوفي في البحرين والعلاقة بين المستويات المائية وتوزيع الملوحة فيه في جزر البحرين، وخلصت إلى أن هبوط المستويات المائية أدى إلى غزو مياه البحر والمياه العميقة المالحة للخزان مؤدياً إلى زيادة ملوحته في المناطق الشرقية من جزر البحرين. وبناء على هذه الدراسة بدأت شركة نفط البحرين في العام بمراقبة المستويات الملحية في الخزان بشكل دوري (ربع سنوي) إلى العام عندما تم تسليم هذه المعلومات إلى مكتب مصادر المياه التابع للحكومة. كما قامت الشركة في العام بإجراء حصر لجميع تصريفات المياه الجوفية والمتمثلة آنذاك بالعيون الطبيعية القارية والبحرية والآبار الارتوازية.
ثم قامت الشركة في العام بعمل دراسة تقييمية لموارد المياه الجوفية في البحرين وعلاقتها بالمنطقة الشرقية في المملكة العربية السعودية، وبينت أن مياه البحرين الجوفية تغذيها المياه الجوفية في المنطقة الشرقية. وأشارت الدراسة إلى أن وضع المياه في البحرين في تدهور مستمر وبأن هناك الكثير من الآبار التي تتنافس على نفس المصدر في كلا البلدين، وبأن استهلاك المزارع يمثل نحو في المئة من الاستهلاك الكلي للمياه الجوفية، وبأن الكثير من المزارع في البحرين يوجد بها آبار تفوق احتياجاتها وتستخدم المياه بطريقة غير سليمة وتؤدي إلى هدرها سواء بسبب تدفقها المستمر أو بسبب استخدام طرق ري مهدرة للمياه. وأوصت الدراسة بتحديد عدد الآبار في المزارع وبسد الآبار الزائدة عن الحاجة في المزارع، وأوصت بوضع ضوابط على حفر الآبار الجديدة وعدم إصدار رخصة لحفر بئر جديدة إلا بعد تبرير صاحب الطلب لحاجته له، كما أوصت بتحسين طرق الري لتقليل الهدر المائي، وتوعية المواطنين والمزارعين بأخطار الهدر والاستمرار فيه.
وفي العام نفسه () قامت شركة نفط البحرين بعمل دراسة شاملة لوضع المياه في البحرين، وتوقعت هذه الدراسة أنه إذا استمر الوضع كما هو عليه آنذاك، أي استخدام المياه من دون ضوابط، فإنه من المحتمل أن لا توجد مياه جوفية صالحة للشرب في البحرين بحلول العام ! واقترحت الدراسة إدخال تقنية التحلية على مستوى كبير في البحرين لتغطية الطلب البلدي، إذ إنه من المتوقع أن تصل مستويات ملوحة المياه الجوفية إلى درجات غير مقبولة في معظم المناطق السكنية بحلول العام (تم إدخال التحلية في البحرين في العام ). وأوصت الدراسة بضرورة وضع التشريعات والقوانين المائية ومراقبة تطبيقها وتنفيذها من قبل الجهات المسئولة، وان تتبع هذه التشريعات عند إعطاء التصريحات لحفر الآبار. كما أشارت الدراسة بعدم وجود مستقبل للزراعة في البحرين إذا ما لستمر الوضع على ما هو عليه، وبأن عدد كبير من المواطنين المزارعين سيدفعون للحصول على العمل في القطاعات الأخرى. وحذرت الدراسة بـ «ان مستقبل المياه الجوفية في البحرين يمر بدرجة كبيرة من الخطورة وبدرجة منذرة للأجيال القادمة، وعلى الحكومة أن تأخذ كل الخطوات الممكنة للمحافظة على الباقي من هذا المصدر المائي المهم».
وفي العام نشر جليل العريض مقالاً باللغة العربية بعنوان «الماء... ومستقبل البحرين» في مجلة «العلوم» (العدد السادس، يونيو/ حزيران )، لخص فيه نتائج وتوصيات الدراسات المذكورة أعلاه، وتطرق إلى قضية هبوط المنسوب المائي وغزو مياه البحر للمياه الجوفية وتدني نوعية مياهها، وأشار إلى أنه إذا ما استمر معدل الهبوط بنفس المعدل سينخفض مستوى المياه الجوفية إلى مستوى سطح البحر خلال إلى سنة في منطقة البديع التي تمتلك أعلى مستوى مائي وأفضل نوعية مياه في جزر البحرين، وبعدد سنوات أقل في باقي مناطق البحرين، وحذر من هدر المياه في القطاع الزراعي، وأوصى بتقليل الكميات المستخرجة من المياه الجوفية، وأهمية المحافظة على المياه لتستمر في خدمة الجيل القادم، كما أكد على ضرورة التعاون مع المملكة العربية السعودية في إدارة واستخدام هذه المياه المشتركة.
وبعد ذلك توالت دراسات وتقارير شركة نفط البحرين وجميعها حذر من خطورة استمرار تدهور الوضع المائي في البحرين المتمثل في هبوط مستوياته المائية وجفاف العيون الطبيعية وتدني نوعية مياهه بسبب السحب العشوائي غير المنظم للخزان المائي. ففي العام أشارت إحدى الدراسات إلى أن إجراءات المحافظة الصارمة هي وحدها الكفيلة بإدامة المياه الجوفية لخدمة الأجيال القادمة. وفي العام أوصت دراسة أخرى بضرورة إقامة نوع من التفاهم أو التعاون مع المملكة العربية السعودية لاستغلال المياه الجوفي. وأوصت دراسة في العام بتركيب عدادات على آبار المياه الجوفية لتحديد كميات المياه المسحوبة، وبإجراء دراسات معمقة لتحديد الاستهلاك الحقيقي للمحاصيل الزراعية.
وتلى هذه الدراسات دراسة مستفيضة في العام قدرت هبوط المستويات المائية إلى مستوى سطح البحر وخسارة المخزون المائي الجوفي بسبب التملح بنهاية العقد الأخير من القرن الماضي، وأوصت بضرورة التعاون مع الجانب السعودي في شئون المياه، وتطوير شبكة لمراقبة المياه الجوفية، كما أوصت بدراسة وضع آبار تشاركية تمتلكها الحكومة للمناطق الزراعية بدلاً من العدد الكبير من الآبار الخاصة التي يمتلكها الأفراد، وتنظيم وتقنين توزيع مياه الري على المزارعين من خلال هذه الآبار، وذلك لتحسين طرق الري الزراعية ولإدخال إجراءات المحافظة المتعلقة بوسائل الري والطرق الزراعية، بهدف منع الهدر المائي في القطاع الزراعي.
وفي العام أوصت إحدى الدراسات بضرورة إنشاء جهاز مسئول عن الموارد المائية في البحرين بأسرع ما يمكن ليتولى المسئوليات التي تقوم بها شركة نفط البحرين آنذاك، وحددت الاحتياجات البشرية لهذا الجهاز وأطر التعاون والتنسيق بين هذا الجهاز والجهات الحكومية الأخرى. وفي العام أكدت دراسة أخرى على ضرورة إنشاء سلطة مركزية للمياه في البحرين لتعنى بالتنظيم والتخطيط المستقبلي للموارد المائية والاهتمام بتوفير المياه في قطاع الري المستهلك الأكبر للمياه الجوفية ( في المئة آنذاك) عن طريق رفع كفاءة الري المتدنية، وتطوير أساليب الري وإنشاء آبار تعاونية بدلاً من الآبار الخاصة.
وفي الفترة ما بعد الاستقلال والتي انتقلت فيها مسئولية إدارة المياه من المستشار البريطاني وشركة نفط البحرين الوطنية إلى حكومة البحرين الحديثة آنذاك، توالت الدراسات المائية التي تنذر بخطورة الوضع المائي وبضرورة اتخاذ الكثير من الإجراءات الإدارية التنظيمية لوقف استنزاف المياه الجوفية، كما ظلت مساعدات السفارة البريطانية والخبراء البريطانيين مستمرة لسنوات عدة في إجراء هذه الدراسات، ولا يسع المجال لذكرها هنا.
إن أول ما يتبادر إلى الذهن بعد قراءة هذه المقالات التاريخية التي تعرضت للوضع المائي في البحرين ونبهت إلى خطورته هو أن مشكلة المياه الجوفية وأسبابها وكذلك سبل حلها كانت معروفة منذ أكثر من سنة. كما يلاحظ بأن معظم التوصيات التي ذكرت في هذه الدراسات، وبعد مرور أكثر من نصف قرن، مازالت تتكرر في الدراسات الحديثة، مثل إنشاء سلطة مركزية للمياه في البحرين لتعنى بالتنظيم والتخطيط المستقبلي للموارد المائية، والتعاون مع المملكة العربية السعودية في مجال المياه الجوفية المشتركة، وخفض الهدر المائي في القطاع الزراعي، ورفع الوعي لدى المزارعين، والحد من حفر الآبار، وتركيب العدادات على آبار المياه الجوفية (لم يتم إلا في العام ، أي بعد مرور أكثر من سنة منذ أول توصية له، وما زالت هناك استثناءات). كما يلاحظ أن معظم تنبؤات الدراسات التاريخية قد حدثت فعلاً، فالمياه الجوفية، كما تنبأت الدراسات منذ نحو نصف قرن قد وصلت إلى مراحل حرجة جداً ولم يظل من الخزان المائي الجوفي إلا جزء صغير جداً صالح للاستخدام المباشر، وجميع العيون الطبيعية قد جفت، والقطاع الزراعي مازال على ما كان عليه منذ عشرات السنين وقد أشرف على الاندثار.
ولا يملك المرء إلا أن يسأل لماذا لم تحل المشكلة المائية منذ ذلك الوقت؟ وما كفاءة الجهاز الإداري والبشري المسئول عن المياه خلال هذه الفترة؟ في اعتقادي الجواب معلوم ولا يحتاج إلى بذل مزيد من الجهد.
حالياً يتحمل المسئولون عن قطاع المياه إرثاً ثقيلاً ومشكلات متراكمة ومتفاقمة بسبب عدم الكفاءة الإدارية والعلمية للمسئولين عن قطاع المياه والإهمال الكبير لحل هذه المشكلة في الفترات السابقة. وقد يكون إنشاء بيئة ممكنة في مجال الترتيب والبناء المؤسسي والاهتمام ببناء القدرات البشرية من أهم الخطوات التي يجب القيام بها لإنشاء جهاز إداري كفء قادر على التعامل مع مشكلات المياه المعقدة وبأسلوب ومنهجيات علمية حديثة، وليكون أحد المعالم الرئيسية لرصف الطريق نحو تصحيح الوضع المائي.
أستاذ إدارة الموارد المائية، جامعة الخليج العربي
إقرأ أيضا لـ "وليد خليل زباري"العدد 1486 - السبت 30 سبتمبر 2006م الموافق 07 رمضان 1427هـ