«إعادة احياء عملية السلام». هذا هو العنوان العريض الذي بدأت تحته جولة وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس في المنطقة. وتحت العنوان العريض يمكن قراءة عناوين فرعية كثيرة تستهدف استدراج المنطقة العربية إلى نوع من الاستقطاب السياسي يعطل في النهاية دور جامعة الدول العربية وموقعها التقليدي في المحافظة على التوازن الايجابي بين السياسات المختلفة التي تنتهجها الكثير من العواصم العربية.
فكرة «إعادة احياء عملية السلام» قديمة الا انها تجددت في ضوء تداعيات العدوان الأميركي - الإسرائيلي على لبنان الذي أدى إلى انهاك البلد وتدمير بناه التحتية وتوريطه في تجاذبات أهلية قد تؤدي في حال انفلاتها من الضوابط إلى نوع من «الفوضى البناءة». ولعل يكون هذا الواقع هو السبب الذي دفع رايس إلى عدم زيارة بيروت أو دعوة لبنان كشريك «مضمون» في عملية «إعادة احياء السلام». فالخراب الذي اصاب هذا البلد الصغير مسئولة عنه الولايات المتحدة والأسلحة التي استخدمت لتشطيب كل المرتكزات الاقتصادية والحيوية مصدرها الترسانة الأميركية. لذلك وجدت رايس انه من المعيب سياسياً أن تقوم بزيارة بيروت في وقت تعتبر إدارتها مسئولة أخلاقياً عن تدمير بلد مفلس مالياً وجرجرته إلى شفير هاوية لا يعرف متى يسقط فيها.
لبنان إذاً خارج عملية «إعادة احياء السلام». كذلك سورية بوصفها الطرف المتهم بتفجير الساحة. فحكومة تل أبيب بعد أخذ ورد بين أجنحتها وافقت في النهاية على السير في المضمار الأميركي القاضي حالياً بابعاد دمشق عن التفاوض.
بقي الموضوع الفلسطيني. الولايات المتحدة الآن تراهن على هذه النقطة انطلاقاً من اعتبارات كثيرة كررتها في الآونة الأخيرة وهي تتلخص بفكرة محاصرة «الإرهاب». فإدارة واشنطن ترى انه لابد من تقديم بعض التنازل في هذا الموضوع إذا كان «التنازل» له وظيفة محددة ويخدم السياسة الأميركية العامة.
«إعادة احياء عملية السلام» إذاً هي فكرة عامة تستدرج مجموعة عروض منها تطمين «الدول المعتدلة» بوجود خيار يعطيها ضمانات وتنازلات مقابل الاستعداد المشروط للتقدم باتجاه الانفتاح على «إسرائيل». وهذا الانفتاح حتى يعطي ثماره السياسية لابد أن تقوم تل أبيب بمبادرة تجاه الداخل الفلسطيني وما يحتاج اليه من تسوية تضمن الحد الأدنى المعقول لحقوقه في الأرض والمياه والعودة وقيام «دولة» قابلة للحياة.
العنوان العريض إذاً ليس بعيداً عن تلك العنوانين الفرعية وهي فك ارتباط لبنان وسورية مؤقتاً وعزلهما عن مشروع «إعادة احياء عملية السلام»، وتهميش دور جامعة الدول العربية ومنع تأثيره الايجابي على مسألة «التضامن العربي»، وأخيراً توليد منظومة إقليمية أمنية تعتمد مجموعة هواجس تتصل بالملف النووي الإيراني وصولاً إلى تأمين غطاء عربي مقبول لمسألة تدويل إقليم دارفور في السودان.
هذه العناوين الفرعية تبدو أنها تشكل أساسات للتوجهات الأميركية في المرحلة المقبلة، وربما تكون رايس هذا ما عنته حين اشارت إلى ولادة «شرق أوسط جديد». فهل «الشرق الأوسط الجديد» يعني ظهور تكتل سياسي مؤقت يضم ثماني دول زائد «إسرائيل» ام انه مجرد تعبير ايديولوجي عن مساحة سياسية جغرافية قابلة للتقلص أو التمدد بحسب الحاجة وموازين القوى؟
المسألة لم تتوضح معالمها حتى الآن. ولكن يمكن اخذ فكرة عن المشروع من خلال تلك التصريحات الملتبسة التي تصدر تباعاً عن حكومة تل أبيب.
حكومة ايهود أولمرت تبدو الآن في صدد مراجعة نقدية شاملة لسياساتها المضطربة أصلاً بعد أن تلقت تلك الصفعة الاستراتيجية من المقاومة ابان عدوانها على لبنان. فهذه الحكومة تعتبر على حياء أنها «خسرت معركة ولم تخسر الحرب» بينما المقاومة اللبنانية (حزب الله) تمكنت من «ربح معركة ولم تربح الحرب». وهذا النوع من «التوازن السلبي» فرض شروطه السياسية على تل أبيب وبات عليها ان تعيد التفكير في استراتيجية ثابتة اتبعتها بعد حرب الخليج الثانية في العام . فتل أبيب اكتشفت بالملموس انها لم تعد قادرة على حماية أمنها من دون مساعدة مباشرة من الولايات المتحدة، وأنها لم تعد تلك الدولة التي تستطيع معاقبة الدول العربية من دون ثمن. وهذه المعادلة الجديدة في موازين القوى العسكرية يفرض عليها المزيد من الاعتماد على قوة أميركا ودورها التقويضي في منطقة «الشرق الأوسط». وحتى تستطيع أن تستكمل سياستها لابد لها من التنازل وابداء ليونة والتأقلم مع الحاجات الأميركية ومصالح الولايات المتحدة العليا في المنطقة.
لاعب صغير
«إسرائيل» لم تعد تلك القوة المخيفة واحياناً تبدو على الشاشة السياسية انها دولة «خائفة» من قوى عربية وغير عربية. وهذا التحول في المعادلة بدأ في تسعينات القرن الماضي حين خرج العراق من حربه الطويلة مع إيران قوة إقليمية عسكرية كبيرة. آنذاك اكتشفت «إسرائيل» حجمها الحقيقي وباتت في موقع لا يسمح لها التحرك من دون غطاء أميركي وهذا ما حصل حين أقدمت الولايات المتحدة على تحطيم العراق وعزله ومحاصرته بدءاً من العام .
خروج العراق من المعادلة الإقليمية العسكرية أعطى فرصة لتل أبيب للتكبر والتشاوف على الدول العربية وهذا ما ظهر من خلال تصرفاتها في مفاوضات «مؤتمر مدريد» ثم بنود «اتفاق أوسلو». ولكن الامرعاد وتطور ضدها خلال تلك المواجهات الميدانية التي وقعت في جنوب لبنان إلى أن تم طرد الاحتلال في العام .
مرة أخرى تأتي الحوادث لمصلحة «إسرائيل»، وذلك حين وقعت هجمات سبتمبر/ أيلول . فتلك الهجمات فتحت امام تل أبيب الباب للدخول طرفاً رئيسياً مساعداً للولايات المتحدة في حربها على ما تسميه «الإرهاب». وهذا ما دفع ثمنه المشروع العربي للسلام وتلك المبادرة التي اطلقت في بيروت وأخيراً محاصرة ياسر عرفات في مقره في رام الله.
في هذه الفترة وجدت تل أبيب نفسها في مكان الطرف الأقوى في المعادلة وازدادت ثقتها بقدراتها النوعية حين سقطت بغداد وتحطمت دولة العراق في العام . وأدى هذا التبدل في المواقع إلى اعتماد «إسرائيل» على دور القوات الأميركية وتحولها إلى طرف مساعد للولايات المتحدة.
استمر هذا الدور الهامشي إلى عدوان يوليو/ تموز الماضي حين حاولت تل أبيب استعادة موقعها الإقليمي الخاص في إطار الاستراتيجية الأميركية العامة. ولكن النتائج الميدانة أفشلت حكومة أولمرت في تجديد تلك الوكالة الإقليمية وأثبتت المواجهات أن قوة «إسرائيل» لم تعد كافية وهي بحاجة إلى غطاء أميركي ومساعدة مباشرة منها. وهذا يعني أنها لابد أن تعيد النظر في الكثير من سياساتها والاقلاع عن المواقف السلبية الرافضة لكل مبادرات التسوية التي اقترحتها الدول العربية في قممها وآخرها المشروع العربي للسلام الذي صدر عن قمة بيروت.
«إعادة احياء عملية السلام» التي يقال انها ستكون على رأس جدول أعمال جولة رايس ليست بعيدة عن هذه الفضاءات العامة وتلك النتائج الميدانية التي اسفر عنها العدوان. تل أبيب الآن تعتبر نفسها محصَّنة من جانب لبنان بعد انتشار الجيش معززاً بالقوة الدولية وتراجع صواريخ حزب الله إلى ما وراء نهر الليطاني. كذلك تراهن على تداعيات الحرب وانعكاساتها السلبية على الداخل اللبناني وتصدع الجبهة وانكشافها على «فوضى بناءة» في الأسابيع المقبلة. وهذا الاطمئنان أعطاها فرصة لرفض التجاوب مع الدعوات السورية للتفاوض وافسح لها مجال التركيز مجدداً على الملف الفلسطيني تحت عناوين مختلفة منها الانفتاح على مبادرة السلام العربية ومحاولة التطبيع مع الحاجات الفلسطينية وأخيراً الاستعداد للتكيف مع مستلزمات الاستراتيجية الأميركية التي تعطي الكثير من الانتباه للملف النووي.
جولة رايس إذاً هي بداية شوط جديد في إطار متغيرات فرضتها مجموعة ظروف إقليمية وعلى رأسها دور إيران وموقعها واعتماد تل أبيب على الولايات المتحدة في إدارة هذا الموضوع وتحديداً ذاك الملف النووي. وهذا الشوط يحتاج إلى الكثير من المرتكزات الإقليمية تتجاوز في مساحتها حدود «إسرائيل» وتتطلب موازين قوى أثبتت التجربة الميدانية في لبنان أن حكومة أولمرت غير قادرة على إدارتها وقيادتها
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1486 - السبت 30 سبتمبر 2006م الموافق 07 رمضان 1427هـ