في مقولة الشاعر الإنجليزي جون ميلتون (ولد في 1608، وتوفي في 1674، اشتهر بقصيدة «الفردوس المفقود» التي كتبها العام 1667. أصيب بالعمى في مرحلة من حياته): «للسلم انتصاراته التي لا تقل بسالة عن انتصارات الحروب»، اختزال لحال الخيارات اليوم في اتصالها بالأزمات والمعالجات التي تحتاجها، وهي في أغلبها أبعد عن الخيارات وأقرب إلى فرض الأمر الواقع؛ ما يعمّق من الأزمات ويأخذ بها إلى مزيد من تهديد حال السلم.
والذين يتخذون وينحازون إلى خيارات ومناهج ومخططات الحروب لا يمكن أن يكونوا بذلك في العمق من البسالة. مثل تلك الخيارات هي في كثير من أوقاتها وأمكنتها هروب من مواجهة المشكلات والأزمات باليسير من الواقعية وإعمال العقل، وكلفة ذلك كله لا تتعدّى أن يتنازل أحدهم عن تضخّم ذاته وكبريائه في حدوده المرَضيَة لإنجاز ما يحفظ كبرياء المجموع البشري ضمن حاله الطبيعية والمستقرة.
الغريب الذي لم يعد غريباً في واقع الأمر، أن الذين يتصدّون لامتصاص غضب وهياج البشر هم أبعد ما يكونون عن التهدئة؛ لأنهم في المُعاين من الممارسة والأدوار والتجربة، ضالعون حتى العظم في كل تأزّم موقف، واحتقان وارتباك خيارات أو توجهات.
لن تجد اليوم بين ثعالب المخلوقات وثعالب السياسة من يحتاج إلى تذكيره بـ «ألف باء» المكر كي يستأنف دوره، ذلك أمر يمكن تلمّس حضوره وشواهده في دمه أو في الحليب الذي رضعه.
في السياسة اليوم لا يمكن للأرانب والضالعين في الأخلاق والضمير أن ينجحوا ويحققوا فتحاً مبيناً بالتوقف عند قائمة طويلة من المثاليات واستقصاء وإعادة مراجعة وقراءة المفاسد ومحصلاتها. السياسة باختصار، بيت الثعالب حيث المكر لا يحتاج إلى التهجئة؛ إذ هو في الدم والأصل من التكوين.
والذين يراهنون على أخلاقهم وصلابتها، بتوهمهم أنهم واثقون من عدم إمكانية تلوثهم بالمناخات التي تفرضها السياسة؛ سيكتشفون أنهم يتحدثون من كوكب مخاطبين كوكباً آخر يبعد عنهم سنوات ضوئية؛ إذ الصوت في الرجْع من الصدى من دون أن يبلغ مرمى وجهة أرادوها.
وبالعودة إلى الثعالب، تلك التي لا تُحسن غير المراوغة والمكر وهما حاستها الأولى والضرورية. حاستها للإيقاع بما تترصّد وتكمن له، لايمكن أن تترك أو تخلف وراءها وهم طمأنينة وإن بدتْ ناعمة في انقضاضها على فريستها وحتى ما قبل ذلك الانقضاض.
ثم إنك لن تجد ثعلباً يكشف عن مكره أو يلمّح بشيء منه. يأتيك في هيئة حمل أو فَرَاش أو ماء؛ وأحياناً في هيئة أعياد وهدايا؛ أو ما يمتّ إليهما بصلة. لن تجده في الصريح من المكر والصريح من الخبث. ستجده في هيئة تتعاطف فيها معه وتظل مأخوذاً ببسالة وطاقة احتوائه إياك.
ثم إنك لن تتمكّن من تقصّي وترصّد هيئة الثعالب في عالم متحوّل ومتحرّك وقادر على تغيير هيئته وحقيقته قبل أن يرتدّ إليك طرْفك. مثل تلك الموهبة والطاقة والقدرة تجعلك بين خيار أن تتعامل مع من حولك جميعاً باعتبارهم ثعالب كي تتحوّط لنفسك وبين أن تتعامل معهم باعتبارهم حملاناً في الأسر من وداعتهم.
في الراهن، وإزاء هذه التحولات التي نشهد دقائقها وتفاصيلها؛ يراد للحراك العربي أن يتبنّى صفة المكر كي لا يُضرب في مقتل على أقل تقدير؛ فيما مطالبه لا تحتاج إلى كل تلك الوصفات المعقدة؛ لأن الحراك ذاك جاء بعد انسداد الأفق وتعقد السهل والبسيط والضروري والبديهي لدى إنسان ذلك الحراك. كل ذلك لا يحتاج إلى المكر الذي مورس عليه وبطل سحره وانتهت جدواه وصلاحيته.
يمكن لذلك الحراك حين يتاح له هامش خيار أن يمارس شيئاً من مكره الخلاّق في أن يظل في صحو دائم؛ لأن الذين لم يستوعبوا الدرس فمكروا دهراً بشكل فاسد وبذيء وسقطوا جراء غيّهم، لهم أتباع في المكر ذاك والارتداد الذي يمكن أن يُحدث أثره في خلخلة معادلات وقلبها. هنا على ذلك الحراك أن يقرأ مكره كما يجب لا أن يتهجّاه.
إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"العدد 3582 - الأربعاء 27 يونيو 2012م الموافق 07 شعبان 1433هـ
الثعالب في كل مكان
سيدتي العزيزة السياسة بحد ذاتها ثعلب كبير ... احيي قلمك و فكرنك الجميلة