العدد 3582 - الأربعاء 27 يونيو 2012م الموافق 07 شعبان 1433هـ

اختطاف الإنسان حين يُصادر عقله وخياره

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

العقل حين يُوجّه ويُتحكَّم فيه ويُدار من قبل جهات وأطراف تريد الهيمنة والاستحواذ على الحياة بكل تفاصيلها، لا يعود عقلاً. إنه صندوق حاجيات يتم ملؤه وإفراغه بحسب الطلب والحاجة.

ما يحدث هنا، في تناول وتعاط؛ وأحياناً تجاذب أطراف بعينها، من المحسوبين على الكتابة الصحافية، وبعض «ثورجية المناهل» ومنظّري المراحل بحسب المزاج، يبعث على الشفقة والتندّر والاستلقاء على القفا من الضحك وفائض السذاجة والاستعلاء أيضاً في الوقت الذي تمارس فيه السذاجة؛ عدا كم الاستهبال والاستغفال الذي يُمارس على الناس، تحت يافطة تخريجات وتحليل وتنظير وفي نهاية المطاف لا شيء يدل على أثر من ذلك! لا عقل يمكن إثبات حضوره في المسألة برمّتها من الألف إلى الياء. الحاضر هو الإملاء والتوجيه والتحكّم عن بعد.

في الشأن المحلي، وفي مرحلة المحنة التي عصفت بالبلاد، تلك التي لا يبدو أن أفقاً واضحاً يتم تلمّسه لوضع حدّ ونهاية لها؛ بحسب المعطيات على الأرض وطبيعة الممارسة التي نشهد ونعاين، ثمة من تناول عقله وهو في مرحلة استهدافه وتأميمه وتوجيهه والتحكّم فيه، ما يُراد تناوله، تماماً كعينه التي يُراد له أن يرى بها ضمن ما حُدّد ووجّه إليه.

حصر ما حدث وتوصيفه ضمن دائرة المؤامرة والخيانة والارتباط بأجندات خارجية، يعمد إلى استغفال الناس ووضع هذا البلد أمام سخرية مفتوحة أمام العالم؛ وكأن الأوضاع قبل حدوث ما حدث مستقرة ومطمئنة ومستتبة، والحقوق لا تشوبها شائبة. منطق ومحاولة استغفال كتلك فيها إصرار على اختطاف عقول الذين يروّجون لتلك السذاجة التي تُقدم باعتبارها تنظيراً من قبل من لا يحسن كتابة سطر من دون أن يصيب المصحح اللغوي بقرف لا حد له! ولا يهم بعد ذلك تحت أي عنوان أو بند أو تخريجة يكون ذلك الاختطاف لعقول ومدارك وخيارات الذين انتخبتهم آلة التعامل مع الأوضاع الراهنة.

ثمة طأفنة طالت معظم أوجه وصور الحياة ومواقعها. تجاوزات صارخة لم تأتِ من عندياتنا. قذفت بها لجنة بسيوني لتقصي الحقائق. صدمت من صدمت، وأثارت حنق من أثارت حنقه، وتغاضى عنها من تغاضى وهاجمها من هاجمها من دون أن ينعت رئيسها بالارتباط بجهات خارجية هذه المرة أيضاً!

لم تكن الحقائق التي صفع بها البروفيسور بسيوني هابطة بمظلة وهم وأضغاث أحلام تنتاب الواحد منا بعد وجبة دسمة أو سمر غير بريء.

أحد الأصدقاء العابرين في الزمن العابر، وفي الفضاء الافتراضي بكل محاسنه ومساوئه، الذي لم أستطع التواصل معه لفرط سذاجة واختطاف عقله وخياراته وأحد المنتفعين والمتكرّشين في الأزمات، ضمن مئات تم تجييشهم في حملات ضارية ومحمومة وخارجة على كل عقال منذ ما قبل 15 مارس/ آذار 2011، حدث أن علّق وقتها على صورة رأس مفضوخة والمخ متدل من بقايا جمجمة مفتوحة، أن الصورة مفبركة وتعود إلى أحد شهداء «الانتفاضة الفلسطينية» - لم تكُ وقتها انتفاضة أساساً في الأراضي الفلسطينية - الذي سقط برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي. هكذا في تقرير حاسم وواثق ومرتجل في أقل من خمس ثوان؛ فيما احتاجت لجنة بسيوني إلى شهور عدة لتوثيق حالات محددة ومرصودة!

ثم إن الإصرار على ربط ما حدث من احتجاجات ومطالبات بأجندات خارجية هو العنوان الأكبر والصارخ للتوجيه والتحكّم واختطاف عقول ومدارك وخيارات من كانت لهم عقول، وصحوا على غيابها، ووجدوا التلقيم والتلقين محله يدورون معهما حيثما دارا!

من المفترض أن يكون العقل مسلحاً ومحاطاً بالضمير، ذلك الذي يوجّه صاحبه لاتخاذ موقف هنا أو النأي بنفسه عن موقف هناك. ومن المفترض أن يكون أيضاً هو الحامل لقيمته ومدى أهميته ضمن المكان والزمان والبشر الذين هم على ارتباط به أو هو على ارتباط بهم، عبر معرفة مباشرة أو عبر انتمائه لهم ضمن محيط المكان والزمان والبشر.

في الجانب الآخر، لم يسلم بعض النخبة من هكذا اختطاف وتوجيه وتحكّم في العقول والإرادات والخيارات، ولسنا بمنأى عمّا حدث في محاكمة الأطباء والأحكام الأخيرة التي صدرت، وشهادة زملاء لهم، أولئك الذين داسوا على القسم في موقفين، يوم أن شهدوا زوراً، ويوم أن أقسموا على أداء واجبهم ضمن مساحة «أبقراط» الذي قعّد لأخلاقيات باتت تحصيل حاصل لدى بعضهم. تمخضت تلك الشهادات عن إدانة صدمت العالم، لتبرئ المحكمة الأطباء من احتلال المستشفى وحيازة الأسلحة والإهمال في أداء واجبهم والامتناع عن معالجة مرضى بسبب طائفتهم. القسم ذاب وذوى قبل ممارسة أولئك الأطباء شهادتهم في موقف لا أخلاقي خرست دونه ألسن الذين اختطفت عقولهم وخياراتهم ومواقفهم وضمائرهم ولم ينبس أحد منهم ببنت شفة، ويبدو أن لا إجراء في الأفق يمكن أن يتخذ أو توجيه تهم اليمين الكاذبة.

ملفات كثيرة نشطت وتم الالتفات إليها؛ وخصوصاً ملفات الفساد، وضمن دوائر محددة وضيقة ومرصودة، وكأن البلد لم تعرف الفساد وعلى قطيعة معه؛ وتم نسيان أو تناسي أضخم وأكبر ملف فساد في تاريخ البلاد إن لم يكن في تاريخ المنطقة بأسرها ذلك المتعلق بسرقة الأراضي! وعلى رغم التقارير السنوية التي يطلع بها ديوان الرقابة المالية والتجاوزات التي لا حصر لها والإهدار الواضح والسرقة الصريحة للمال العام، من دون أن ننسى سرقة القرن في إحدى الشركات الحكومية الكبرى تلك التي فاحت رائحتها الكريهة لتتجاوز فضاء وحدود المنطقة لتمتد إلى إحدى قارات العالم.

العقول والضمائر ذاتها ستراها أكثر عطباً وتعطلاً في الأيام القليلة المقبلة، أمام هذه الهستيريا التي تتعامل - ولاتزال - مع تسريبات وبالونات اختبار بشأن حوار وطني في الطريق إلى الإقرار والتوافق عليه. العقول ذاتها ضمن التوجيه والتحكم وفي ثنائية عجيبة من جهة الترويج لذلك الحوار وأصوات تدفع باتجاه إجهاضه والوقوف سداً دون تحققه!

لن أتحدث عن القفز ونسيان توصيات لجنة تقصي الحقائق التي انتدب إليها البروفيسور بسيوني، ذلك أمر نشهد الالتفاف عليه عبر ضخ مزيد من التصريحات وتأكيد الالتزام بها والنتيجة: دون الصفر! تكفي مكنة العقول الموجّهة والضمائر المُتَحَكَّم بها، سنداً ورافداً لمثل إجراء ركن تلك التوصيات وكأنها لم تكن؛ ما يعمّق حال التأزيم والفجوة بين المكونات، وتفريغ المؤسسات والوزارات والهيئات الحكومية من كفاءات ذنبها أنها من طيف واحد وفي مرمى يبدو مؤبداً من الاتهامات وتأكيدها!

كيف لأمة الخروج من أزماتها ومحنها وكوارثها واحترابها الاصطناعي (يحدث ذلك في كثير من الأحيان) حين يراد لمن يكون من المفترض أنهم أصحاب عقول ويمثلون النخبة، تأجيل ورهن عقولها وضمائرها وخياراتها لمكنة اصطفاف من مصلحتها حدوث كل تفاصيل ذلك، واستمرار حال التأزيم والاحتقان وتأبيدهما، ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً.

حين يحدث كل ذلك؛ أعني حين لا يترك لأصحاب العقول إعمال عقولهم؛ إنما يراد من ذلك إرجاع الناس إلى جاهلية مصطنعة تصادر كل ما حققوه من قفزات ودشنوه من مشروعات هدفها الأول والأخير الارتقاء بقيمة الإنسان إلى أرفع درجاتها وتجلياتها. ثم إنه لا يمكن أن يحدث ذلك. لا يمكن للإنسان خصوصاً والمجتمعات المتحضرة عموماً أن تتواءم وتتعايش مع طبيعة ونوايا مخططات وأطروحات كتلك؛ بما تملكه المجتمعات من إمكانات كشف الدجل والمؤامرات والتسويات التي تتم على حساب استقرار مكوناتها وتنوعها تجييراً لها لحساب مكون وجماعة وأطراف أخرى. وحين يحدث ذلك للمرة الثانية، لا يمكن أن تنتمي الأمة ضمن ذلك الحيز من النوايا والتوجهات إلى المكون البشري في صحيح عيشه وطبيعة تآلفه ورفضه للدخيل على استقراره وما يمثله ذلك الاستقرار من فيض إبداع وقدرة على اجتراح المذهل والاستثنائي.

سئم أصدقاء وقراء من تكراري لمفهوم ومصطلح الوهم في كثير من كتابات جاءت موضوعات أكثرها صدى أو صوتاً لما يحدث. ردّي دائماً، شفاهة وكتابة، أن المراحل التي تحيا فيها أية أمة بعيداً عن الاستقطاب والارتهان ومحاولة التأميم لا وقت لديها كي تتوهم، والأمة التي هي في الصميم والعمق من ذلك لا خيار لها ولا ملاذ سوى الوهم؛ إذ تجد فيه خلاصها في وهم مركّز هذه المرة أيضاً!

أقول، لن أملّ من تكرار أن الوهم والانحياز إليه هو وراء وصفات وطبخات كتلك؛ على رغم أننا لم نعِ أن وهماً صنع إنجازاً ومفارقة في التاريخ الذي أحطنا ولو باليسير من تفاصيله وحوادثه؛ أو الذي لم نحط بشيء منه.

إنه الانشداد إلى سلب حق الناس في إعمال عقلها وأثر ذلك الإعمال في طبيعة الزمان والمكان. يكفي أن نقف أمام شاهد نصي تاريخي يورده صاحب كتاب «الإمامة والسياسة» ابن قتيبة في جزئه الثاني ص 42: «قال خالد بن عبدالله القسري، وقد كان ظهره إلى الكعبة قد استند إليها: والله لو علمتُ أن عبدالملك (بن مروان) لا يرضى عنّي إلا بنقضي هذا البيت حجراً حجراً لنقضته في مرضاته».

إنها قصة اختطاف الإنسان حين يتم اختطاف عقله وضميره وخياره؛ وفوق هذا وذاك، استعداده؛ وأحياناً تبرّعه وسماحه لتلك الممارسة كي تمرر وتمارس عليه.

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3582 - الأربعاء 27 يونيو 2012م الموافق 07 شعبان 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 10:27 ص

      عقول الببغاوات .. وعقول من تجد الصمت أسلم

      والله لو علمتُ أن عبدالملك (بن مروان) لا يرضى عنّي إلا بنقضي هذا البيت حجراً حجراً لنقضته في مرضاته».
      أكيد ما احد أنكر عليها قولته تلك ، لأن بعضهم عقول ببغاوات ، لأن مرضات السلطان من مرضات الله لأنه خليفة الله في أرضه.
      والبعض الآخر ، رجح الصمت لأنه أسلم من الدخول في معاداة خليفة الله

    • زائر 1 | 2:07 ص

      المليح .. مليح من كلمته

      لا فض فوك .. سير .. لن يواري القبر صدر قتل الظلماء بغضى .. كنا سنرضى بمصيرنا .. لو نرى الوردة ترضى .. سوف نذري من العظام لعطاش الطير حوضى .
      والوهم في توصيفك لهم قليل . بل هي بداية سكرة الموت !

اقرأ ايضاً