للراحل الشيخ باقر شريف القرشي (1933 - 2012) الذي ودّع دنيانا قبل أيام في17 يونيو/ حزيران 2012 صلة بالبحرين من أوجه عدة، أولها أنه أحد من صاغوا شطراً كبيراً من وعي الناشئة الإسلامية منذ أربعين عاماً في مجال الدراسات التاريخية العديدة التي أثرى بها المكتبة العربية والإسلامية؛ وثانيها أنه أستاذ وزميل لجيل واسع من طلبة وشيوخ الدين البحرينيين ممن واصلوا الدرب الذي اشتركوا فيه مع النخبة الواعية من علماء النجف الأشرف منذ بداية تبلور النهضة الفكرية الحديثة في النصف الثاني من القرن الماضي في مدينة العلم والقبة الذهبية.
ارتبط الشيخ القرشي بكوكبة واسعة من علماء الدين البحرينيين وارتبطوا به ارتباطاً علمياً وإنسانياً عميقاً، ولعل أجلى هذه الروابط هي ما تجسد في علاقته الخاصة بسماحة السيد جواد الوداعي الذي وإن غادر النجف لثلاثة عقود متصلة، إلا أن الصلة لم تنقطع مكاتبةً ومهاتفةً وبكل ما تسخو به الفرص للتلاقي. وعندما تخلص العراق من دكتاتوريته، تنفست النجف عبير الحرية واستعاد العراق حيويته الفكرية وانفتاحه على العالم من حوله، وكان من نتيجة هذا الانفتاح استئناف العلاقة الطبيعية - وإن بشكل محدود - بين دول الخليج والعراق أنظمةً وشعوباً.
أثناء رحلة العلاج الاخيرة للهند في يناير/ كانون الثاني 2010 بصحبة ولديه الدكتور عباس والشيخ مهدي لإجراء الفحوصات اللازمة لمرض سرطان البروستاتا الذي وصل إلى مراحل متقدمة من الانتشار في بدنه الناحل، طلب الشيخ القرشي من ولديه الترتيب لزيارة البحرين كـ «أمنية أخيرة» قبل أن يودّع الحياة، لأنه في اشتياق إلى رؤية سماحة السيدجواد الوداعي الذي ربطته به علاقة استثنائية يعرفها الوسط العلمي في النجف والبحرين على حد سواء.
هكذا حل الشيخ القرشي ضيفاً على البحرين في مطلع فبراير 2010 في زيارة استغرقت أسبوعاً كاملاً، لم يهدأ فيها الشيخ القرشي متناسياً ثقل السنوات وإرهاق المرض، فأصرّ على زيارة المكتبة الوطنية بمركز الشيخ عيسى الثقافي وتحدّث في أكثر من ملتقى، وشارك بكلمات توجيهية في محافل عدة وسط حفاوة البحرينيين الذين يعرفونه كما يعرفون النخيل والعيون العذبة.
وعندما علم الشيخ القرشي أثناء زيارته للبحرين - عبر وسطاء من عائلة السيد الوداعي - وهو في ذروة انشغاله بجدول مواعيده المزدحم بأنني في طور الانتهاء من إعداد كتاب عن شخصية السيد الوداعي، شرّفني بكتابة مقدمة رائعة للكتاب المرتقب، تطفح عباراتها بالأبوة الصادقة والتشجيع على الكتابة، وتلك سجيةٌ أخرى من سجايا النفوس الكبيرة.
سمات عديدة تميزت بها هذه الشخصية الفريدة في جديتها وهمّتها على الإنتاج الفكري والخوض عميقاً في مجاهيل التاريخ، رصداً وتحليلاً وتحقيقاً وتحليلاً، وقد تمثّل المشروع الفكري للشيخ القرشي في محاولة إعادة كتابة التاريخ الإسلامي بأسلوب تحليلي وبلغة حديثة، ومن أجل هذا الهدف صرف سنوات طويلة من عمره، وطوال 60 عاماً كان القلم والكتابة تلازمه ملازمة الظل.
لم يكن الدرب مفروشاً بالرياحين أمام شخصيات علمية طموحة وتملك إرادة للعطاء الفكري، والسعي الدائم للتغيير في مجتمع مثقل بالماضي، يذكر الشيخ حسن الصفار أن الشيخ القرشي حينما طبع أوائل كتبه قامت بعض الجهات المتصدية لشئون الطلاب في الحوزة العلمية في النجف الأشرف بقطع راتبه ومكافأته الشهرية بحجة أنه منشغل بالكتابة والتأليف عن الدرس والتدريس!
ويتحدث المرحوم السيدمهدي الحكيم (ت 1988) في مذكراته كيف أنه لمّا بدأ يلقي المحاضرات التوجيهية ذهب بعض علماء الحوزة إلى أبيه الإمام الحكيم (ت 1970) ليطلبوا منه أن ينصح ابنه بالإقلاع عن ممارسة الخطابة فهي لا تليق بمقامه!
في مثل هذا الجو الخانق، ظلّ الشيخ القرشي يكتب دون هوادة، متحدياً ظلم الأقربين وقيود السلطة البعثية التي لم يتوقف لديها مسلسل التضييق يوماً عن النجف الأشرف وحوزتها العلمية. حتى أن الشيخ القرشي تعرّض لأكثر من محاولة اعتقال، وعندما كان يُسأل لماذا تكتب كل هذه الكتب؟ كان يجيب رجال الأمن بأنه إنما يكتب عن أجداد السيد الرئيس صدام حسين! تماشياً مع الإشاعة الرسمية التي أطلقها البعث البائد من أن السيد الرئيس من آل البيت.
تعالى الشيخ القرشي على الخلافات الفكرية التي كانت تعيشها النجف بحكم تركيبتها العلمية، وتنوعها الاجتماعي، وتبايناتها العرقية الصارخة، وهو وإن كان واحداً من أبرز تلامذة الإمام الحكيم والسيد الخوئي (ت 1992)، إلا أنه لم يكن محسوباً على مرجعية دينية، وقد ظل محتفظاً باستقلاله كمؤرخ وباحث وطالب علم، وكان يلقي الدروس العالية في البحث الخارج لخاصة طلبته.
إذا كانت ثمة دروس من حياة هذا الرجل الفذ، فإن أول هذه الدروس وأهمها هو أنه رجل آمنَ بهدف محدد في حياته، وشكل شخصيته المستقلة كباحث ومحقق من الطراز الرفيع دون أن تشغله شواغل أخرى، وظل طيلة حياته العريضة منصرفاً بشكلٍ متوازٍ نحو الدرس والتأليف، ورغم أنه حضر الدروس العالية عند كل من السيدين الحكيم والخوئي وكتب تقريراتهما الفقهية، إلا أن هذه التقريرات لاتزال مخطوطة على رفوف مكتبة الإمام الحسن (ع) لأنه كان يرى أهمية استكمال مشروعه الفكري والتفرغ له.
يعتز الشيخ القرشي بمؤلفاته التاريخية والعلمية وأهمها موسوعة أئمة أهل البيت التي تربو على الأربعين مجلداً، ترجمت إلى اللغة الإنجليزية فضلاً عن العديد من اللغات الأخرى، كما يعتز اعتزازاً بالغاً بمكتبة الإمام الحسن ذات الطوابق الخمسة، والتي تضم ما يزيد على مئة ألف كتاب ونحو أربعمئة مخطوطة، بناها الشيخ القرشي مع شقيقه الشيخ هادي، وتعد إحدى المكتبات المهمة في النجف.
وفي الخامس من فبراير 2010 عندما أقيمت مأدبة تكريمية على شرف الشيخ القرشي بأحد مآتم سترة العريقة الذي تأسس في العام 1883، وهو مأتم الحاج علي بن حسن المرزوق، تحدّث الشيخ عبدالحسين الستري عن مناقب الرجل، وذكر أن للقرشي جناحاً خاصاً لنتاجه الفكري في مكتبة الكونغرس الأميركي.
هل يموت من ترك لنا كل هذه البصمات المضيئة؟ حتماً سيعيش الشيخ القرشي معنا طويلاً.
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 3580 - الإثنين 25 يونيو 2012م الموافق 05 شعبان 1433هـ
رحم الله شيخنا القرشي
بارك الله بك وسلمت اناملك
حبيبي شكرا لك
بكم نعتز ونفتخ يامن تشعلون شموع المعرفه دمتم للبحرين عزاوفخرا
حتماً سيعيش الشيخ القرشي معنا طويلاً.
هل يموت من ترك لنا كل هذه البصمات المضيئة؟ حتماً سيعيش الشيخ القرشي معنا طويلاً.
س م الوداعي
بوركت اناملك عزيزي . . مقال موفق ..علنا نوفي هذه الشخصية الشاملة لعلوم اهل البيت ع.حشره الله مع من يحب و يتولى
رحمك الله ياشيخنا
رحمك الله ياشيخنا الجليل ..... بالفعل ستفتقدك الامة الاسلامية
بارك الله فيك
حبذا لو تتكرم كاتبنا العزيز باطلاع الناس على كتابات هذا الشيخ الجليل وتشجيعهم على قراءة كتبه وشكرا
شكرا لك
معلومات قيمة نجهلها عن شخصية عظيمة .. بوركت وسلمت يداك