أن تطأ قدماك أرضاً أقمت فيها سنوات للتأهيل للمهنة التي قادتك أيضاً بعد سنوات لزيارتها كضيف يجلس في حضرته كبار من كان يتعلم منهم، لهو أمر يبعث على تمازج المشاعر بداخلك واختلاطها وتضاربها أحياناً...
مصر التي عشت بها قرابة تسع سنوات قضيتها في دراسة الطب، وتعلم أصول المهنة التي شغلت بعد عودتي لأرض الوطن بشهرين.
مصر التي كانت لي أماً في غربة أكره أن أعيشها، وأرضاً احتضنت كل تقلبات مزاجي وعثراتي ونجاحاتي طوال سنوات دراستي.
كانت الزيارة مختلفة هذه المرة، فلم تكن لحضور مؤتمر علمي أو اجتماع أو عمل، بل كانت للمشاركة في ملتقى يضم ممثلين عن بلدان الربيع العربي، كانت لحضور «سمر مع الثورة».
المكان كان حميماً كحميمية تلك العيون التي فلتت من الإضاءة الخافتة وأعلنت عن وجودها بصمت المترقب...
«مكان» من دون «أل التعريف» هو اسم المكان الذي ضمنا تلك الليلة بدفء وطنٍ لم تعبث أيدي الطغاة بقلبه، وكان الجمهور هو الشعب الذي يأبى إلا أن يكون وطناً آخراً. جلست وبجانبي اثنان كاتبة ومصورة فوتوغرافية يمنية، وحارس مرمى في المنتخب المصري، في مكان بدا وكأنه رقعة من وطن كل منا...
هل يعي القدر ما فعل حين جمع طبيباً مع مصورة وكاتبة وحارس مرمى؟ أجل، إنه والمنظمون يعون تماماً كيف يمكن لطبيب أن ينكأ ويعالج جراح ثورة، وكيف يمكن لكاتبة أن تصور بعدستها وقلمها مراحل ثورة، وكيف يمكن لحارس مرمى أن يحرس ملامح ثورة ويصد الهجوم عليها.
انتظرت البداية، وأنا أنظر لتلك الوجوه التي بدت مألوفة حد الابتسام، وكأننا كنا على موعد سابق معها في أوطاننا من قبل، وما إن أعلن الوقت دخوله بصخبه المعتاد، حتى تذكرت من أنا في عالم المقاومة، مقاومة كل ما أرفض على كل المستويات.
لكنني تذكرت ثلاثة مشاهد بفصول متعددة أولها كان في العام 2008 - 2009 إبان الغزو الصهيوني الغادر على غزة، ومشاركتي بمعية صديقي الطبيب علي العكري (المتهم الأول في قضية الجنايات في الطاقم الصحي)، في الوصول إلى غزة مع مجموعة من الأطباء العرب (وتذكرت وجوه الأطباء المصريين وجهاً وجهاً وأنا في وطنهم وعلى مقعد في مكانهم). تذكرت بقاءنا معاً بصحبة زملائنا الأطباء الفلسطينيين تحت نيران العدو لمدة عشرة أيام، شهدنا بها ما شهدنا وعالجنا جراحاً لن تبرأ أعيننا ومشارطنا حتى اليوم من هولها وعمق ألمها. اهتمامي بالقضية الفلسطينية طوال سنوات وكأنها قضيتي الأولى. تذكرت غزة بأضوائها المنطفئة في تلك الفترة وجراحها التي لا تندمل مهما عولج مكانها قبل أن يستأصل الثوار منها جذور العدو.
مرَّ المشهد الثاني بذاكرتي صادماً كشعوري الأول حين كنت ضمن كادره في الصورة، تذكرت العام 2010 وتحديداً يوم تشخيصي بمرض سرطان الغدد الليمفاوية ذات المرحلة الثالثة المتقدمة ولكن في الدرجة الأولى، وبدء مرحلة جديدة من مقاومة من نوع آخر لم أكن أعرف أبعادها جيداً حتى دخلت في العمق منها.
مقاومة لخلايا سرطانية تشبه العدو الإسرائيلي تمتد دون معرفة منك، وتحاول استعمار جسدك/أرضك/ خلاياك... لتبدأ رحلة علاجية هدفها القضاء على مستعمر من نوع آخر يتفق مع أي مستعمر في أنه مرفوض وأنه يحاول الفتك بك إن لم تقاومه بجدارة وحذر وصمود.
وكان المشهد الثالث هو المشهد الأقوى لأن الذاكرة تحمل كل تفاصيله والواقع لم يبرأ أو يتخلص منه بعد، ولاتزال تداعياته مستمرة حتى اليوم بين قمة وقاع، وبين قمع ومقاومة أيضاً...
مشهد يبدأ في العام 2011 الرابع عشر من فبراير/ شباط في بلادي: بلاد اللؤلؤ، حيث انخرطت معظم الطواقم الصحية من مسعفين وممرضين وأطباء وطلبة كلية الطب في المشاركة ميدانياً في الخيمة الطبية، بتجهيز ومباركة وتنسيق مع إداريي وزارة الصحة.
تذكرت بذاكرة الطبيب، المواطن، المنتهك، المعتقل، المفصول، المتضرر، المواطن مرة أخرى... فصولاً طويلة مرت بذاكرتي وأنا في «مكان» أحتمي بدفء الوجوه وظلمة المكان المنير بقلوب من احتوى...
بدأ عزاء خالتي يوم بداية الاحداث المتتالية في البحرين، وبدأت مقاومتي الجديدة في يوم «ارتفاع» أول شهيد فيها، وأنا في طريقي لعزاء خالتي حيث سرت مع المشيعين لجنازة الشهيد الأول من دون وعي مني إلا الوعي الوطني والإنساني والأخلاقي. يومها تجمعت الجماهير الغاضبة في الدوار، حيث تم نصب الخيام، ومنها الخيمة الطبية للمتطوعين من الطواقم الصحية، حيث تم توزيع المناوبات عليها كلٌ بحسب ظرفه، وكانت مناوبتي الأولى في يوم 16 فبراير/ شباط 2011 من الثامنة وحتى الحادية عشرة مساءً ولم أكن أعلم حينها أنني سأغادر في اليوم الذي منع فيه الإسعاف من مزاولة عمله ونقل المصابين إلى السلمانية حيث كنت أعمل. فانتقلت في السادسة صباحاً إلى مكاني الطبيعي في غرفة الطوارئ لمحاولة إسعاف الكم الهائل من الجرحى والمصابين.
كنت وقتها رئيساً لدائرة الأنف والأذن والحنجرة، قبل أن نحاصر في السلمانية لمدة 4 أيام لم نستطع خلالها إسعاف الجرحى الذين تصلنا نداءاتهم من مختلف مناطق البحرين، فقررت أن أخرج من المستشفى مع جميع طاقم دائرتي الذين يقعون تحت مسئوليتي في اليوم الرابع من الحصار، وبعثت باستقالتي للصحافة لنشرها احتجاجاً على ذلك..
لم تكن هذه الأحداث هي نهاية المشهد الثالث، بل كانت البداية، إذ جرّت وراءها في يوم الاثنين 11 أبريل 2011، أحداثاً كانت سبباً في تغيير حياتي.
كنت حينها في محاضرة لطلبة السنة السادسة في كلية الطب، قبل أن تهاتفني سكرتيرة الرئيس التنفيذي لمجمع السلمانية الطبي لحضور اجتماع في الساعة 12 ظهراً في مكتب الإدارة الرئيس، وبالفعل وصلت المكان المنشود قبل الموعد بدقائق، وحضر بعدي 4 من الاستشاريين (3 أطباء وطبيبة) للسبب ذاته، وكانت المفاجأة أنه لم يدعُ أحدٌ إلى أي اجتماع، وبعدها بدقيقة فوجئنا بحضور ما لا يقل عن 15 من الرجال المدنيين، اقتادونا إلى مبنى التحقيقات قسم المخدرات بادارة التحقيقات الجنائية، تحت سمع وبصر الطاقم الإداري.
3 أيام، هي المدة التي قضيتها أنا شخصياً في المعتقل وما أصعبها من أيام لا تنسى، كنت معصوب العينين، مقيد اليدين واقفاً ليل نهار، تتخللها جلسات التحقيق ووجبات التعذيب. ففي اليوم الأول أوقفوني منذ 10 مساءً ولغاية 6 صباحاً، واليوم الثاني منذ 3 بعد الظهر إلى 7 مساءً، وفي اليوم الثالث كان مع النائب العام منذ 1 بعد الظهر إلى 6 مساءً. كان ذلك قبل أن يطلبوا مني الاعتراف عمن أدخل الأسلحة النارية إلى غرفة العمليات ومن أطلق النار على رأس الشهيد الشاب بوحميد.
وبسبب إصابتي بالسرطان الذي كان منقذاً هذه المرة، تم الإفراج عني بعد دفع كفالة مقدارها 3 آلاف دينار (10 آلاف دولار)، بشرط عدم تحدثي للصحافة أو الإعلام أو حتى الأصدقاء عما حدث داخل تلك الأسوار.
لم يكن الإفراج من المعتقل هو نهاية الانتهاكات، بل أوقفت عن العمل في المستشفى لمدة ثلاثة أشهر عدت بعد انقضائها لأطرد من جديد ولتتجدد فترة إيقافي 3 أشهر أخرى، ولم تنهِ هذه الثلاثة أشهر إلا بعد 11 أبريل 2012 أي بعد عام!
ولم يكن الإيقاف عن العمل من المستشفى هو الوحيد بل تم إغلاق عيادتي أيضاً لمدة 3 أشهر بحسب خطاب رسمي وصلني وبقية زملائي أيضاً، إمعاناً منهم في الرغبة في إذلالنا وقطع أرزاقنا في الحرب المعنوية والمادية والاقتصادية التي طالت كثيرين.
بشموخ طبيب عالج جرحى غزة قبل جرحى بلاده، وبعزة من لم يسمح لمستعمر أن يستبيح أرض غزة أو لمرض أن ينتهك جسده، وبعشق مواطن لأرضه وانتمائه لها، أغلقت باب ذاكرتي تلك الليلة بكلمات كانت أحرفها نبضاً صادقاً: «نعم أوذينا وتألمنا وتعرضنا للتحقير والشتم والاستهزاء والضرب والتعذيب والسرقة والسجن والتوقيف والفصل وقطع الأرزاق والمحاكمات التي مازالت مستمرة ونعاني من الآلام النفسية وصدمات ما بعد الأزمات، ولكن مازلنا نعالج الجرحى حتى هذه اللحظة، ونتكافل اجتماعياً.
نحن أقسمنا قسمنا الطبي وتعاهدنا على أن يكون الضمير الإنساني بوصلتنا».
إقرأ أيضا لـ "نبيل حسن تمام"العدد 3579 - الأحد 24 يونيو 2012م الموافق 04 شعبان 1433هـ
الله يشافيك يا دكتور نبيل حسن تمام من جميع الأمراض .
اللهم بحق الإمام علي أبن الحسين عليهما الصلاة و السلام , مريض كربلاء المقدسة و الليلة مولده الشريف , شافي و عافي الدكتور نبيل حسن تمام من جميع الأمراض , و شافي جميع المرضى يا رب العالمين .
هكذا هم
هكذا هم أبناء البحرين الأوفياء البررة
شوقي
كنت هناك
في نفس يوم اعتقالك مع زملائك كنا نخضع للتحقيق وفوجئنا بكم قادمين ومع رسائل مثلنا وإذا بكم تعتقلون أمامنا فتخيل الرعب الذي شعرنا به وأغلبنا نساء؟
لم نصدق أننا خرجنا بعد التحقيق مع قرار بتوقيفنا جميعاً ثلاثة اشهر .
كنت قد كتبت وصيتي تحسباً لدخولي السجن مع احتمال خروجي شهيدة كما حدث لغيرنا لكن الله لم يرد لنا ذلك.
الحمد لله يا دكتور على كل حال وأنا اعتبر اننا منتصرين وأبرز علامة لذلك استمرار محاصرة منطقة الدوار لأنهم يعرفون مدى تصميمنا على العودة وعودتنا تعني فقط إعلان الانتصار.
وما جزاء الإحسان الا الإحسان
تعجز الكلمات عن التحية و التقدير و الإجلال لك يا عزيزي يا بوهشام ، انت مثال حي للتضحية و الانسانية و المثابرة و التحدي ، حفظك الله من كل سوء و ايدك بنصره ... ما احوج البحرين لأمثالك و رفاقك من الكادر الطبي المعطاء و المضحي، سر فالله ناصرك بنصره ..
تخنقي العبرة
ولكن لا يسعنا الا ان نشكركم ومهما قلنا لانوفي حقكم يا اشرف الناس
مثلكم يصنع لهم نصب تاريخية
ولمن سخر جهوده لتعذيبكم و
العطاء
العطاء والمحبة شيء لا يفهمه المنافقين والمتسلقين عديمين الضمير والإنسانية حساباتهم الشخصية ومصالحهم دفعتهم لإرتكاب هذه الجرائم بحق زملائهم الأطباء، اما انتم فقد حافظتم على قسمكم وانسانيتكم وكسبتم احترام العالم وحب الشعب
حروف تنبض بحب العطاء رغم الجراح
يعز علينا يا من ضحيتم بأنفسكم و وجسدتم أسمى معاني النبل والتفاني في مهنتكم ا
انها وصمة عار
ما فعلوه وصمة عار لو كانوا يدركون معنى العار
أطباء أوقفوا نزيف الدم وعالجوا تطوعا حبا لوطنهم و مواطنيه واخرون شغلوا أنفسهم بالوشاية وشهادة الزور
والانتقام كأن بينهم وبين من أخلص لوطنه ثأر
فاين هؤلاء من هؤلاء
أين الشجاعة من الجبن , والصدق من الكذب , والكرم من البخل , والامانة من الخيانة
لكم الحكم يا من تجمعكم الانسانية والوطنية قبلها
والخطاب ليس لمن فقدوا الاثنتين
كل الكلمات لا توفي
كل كلمات توقفت يادكتور فأنتم يا أطبائنا الشعلة الذي سوف يظل نورها إلى الأبد شكرًا لكم وان كانت.لا توفي حقكم فأعذرونا ولكن تأكد بأنكم أصبحتم في كل قلب مواطن شريف يعرف العزة والكرامة ولانسانية معنى
يا فخر البحرين انتم
يا الله يا الله يا الله فرج عنا لقد حزنت جداً وان أقرء مقالك لما مر مر علي بلدنا من ويلات وفرحت لوجود اناس ذوي ضمير حي هذا امتحان من الخالق ووجدنا صابرين صاغرين وسيعلم الذين ظلموا اي منقلب ينقلبون الله لا يرضي بظلم عبد فما بالك بظلم امه. ندعو من العزيز القدير ان يشفيك
ولا تهنوا ولا تحزنوا..
دكتور تمام، احييك بمحبة أولا لهذه الخاطرة المفعمة بالأسى و العزّة والعشق، واحييك ثانيا لصدقك وشجاعتك و جرأتك، واحييك ثالثا لصبرك وصمودك وقوة عزيمتك،هذه الكلمات التي خططتها بيمينك لا بدّ ان يدوّنها التاريخ كموجز لسيرة إنسان ومناضل و طبيب و عاشق لوطنه، انني دائما ما اتمثّل قوله عزّ وجل "ومن يفعل مثقال ذرة خيرا يره" و قد فعلتَ سيدي الكثير من الخيرات ولا بد ان تنال جزاءها طال الزمان او قصُر..
دمت بعين الله .. "ولا تهنوا ولا تحزنوا .."