العدد 3577 - الجمعة 22 يونيو 2012م الموافق 02 شعبان 1433هـ

السياسة ليست «تويتر» فقط

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

الدول تتطور، والشعوب كذلك. تطور الدول، يتحكم فيه عاملان، الأول داخلي، يتعلق بقضايا سياسية، يفرضها المجتمع، وأيضاً، عبر طبيعة التمدد الجغرافي والاقتصادي والثقافي (سلباً أو إيجاباً) داخل ذلك المجتمع. أما العامل الثاني، فهو علاقاتها الخارجية. فالعلاقات الخارجية، لا ترعى مصالح الأطراف فقط، وإنما تتمثل في نقل تجارب دول، إلى دول أخرى، في شئون مختلفة ومتفاوتة.

بالتأكيد، هناك دول تستورد ضمن ما تستورده من دول حليفة، تجارب ثقافية مدنية، أو سياسية متقدمة، أو أنظمة اقتصادية وإدارية لتطوير بيروقراطية جهاز الدولة، وهناك دول لا تستورد سوى التقنيات الأمنية والمخابراتية، بل ووسائل التعذيب، والتخريجات القانونية، بهدف صَوْغ تشريعات، تقيِّد الحريات العامة، وتحد من نشاط المجتمع المدني، كل ذلك باسم القانون وصحيحه. وهو اختلاف «استيرادي»، تتحكم فيه هموم الدولة ومراميها، وطبيعة الحكم القائم فيها، إن كان تعددياً أم تسلطياً، لكن ذلك التباين، لا يلغي أصل موضوع التبادل القائم بين الدول عادة.

أما مسألة تطور الشعوب، فيتحكم فيه عاملان أيضاً. العامل الأول، هو شكل النظام السياسي الذي يتسيَّد على ذلك الشعب، فيدفع الأخير إلى اتخاذ ردَّات فعل متباينة تجاه المسلك السياسي لذلك النظام. وقد رأينا خلال العام الماضي، كيف تحركت شعوب عربية مختلفة، ضمن ثورات عفوية، نتيجة نمط الحكم الذي كان متبعاً في تلك الدول. فقد كان حكماً قمعياً، تمدّد على جسم الدولة ومؤسساتها، وليس العكس، في حين، أن المنطقي والسليم، هو أن يكون النظام السياسي (أو الحكومة) جزءًا من الدولة، وليست الدولة جزءًا منه، أو أن تتحوَّل إلى مرادف له. وهذه الجدلية في الحقيقة، هي الفاصل العملي ما بين الدولة والنظام والذي عادة ما يقع بينهما خلط كبير مع الأسف.

العامل الآخر، الذي يُمكن أن يطور الشعوب، هو الحركة الإنسانية العالمية. فالشعوب، تمنح تجاربها لشعوب أخرى في أشياء مختلفة، من بينها الجانب السياسي. وربما شاهدنا، كيف كان الحراك التونسي الذي بدأ في نهاية ديسمبر/ كانون الاول من العام 2010، مُحفزاً للحراك المصري الذي بدأ في الخامس والعشرين من يناير/ كانون الثاني من العام 2011، ثم الليبي الذي بدأ حركته في 17 فبراير/ شباط من العام ذاته، وما تبعهما من تحركات ثورية وجماهيرية في أصقاع عربية مختلفة. وهي حالة ثورية عفوية تكرّرت في أوروبا بعد العام 1789 ولم تنته حتى ثبات الدولة الأوروبية، القائمة على اللائكية.

هنا، نقطة جديرة بأن يُلتَفَت إليها، وهي المتعلقة بمسألة تأثير الشعوب على بعضها. ففي هذا الأوان من الزمن الحديث، نالت الحركات التغييرية، والثورات الشعبية، نعمة كبيرة، لم يستحصل عليها الأقدمون، سُمِّيت بتقنية الاتصال الحديثة، لإبراز مطالبها السياسية، والتأكيد عليها، وتقديم وترويج نفسها أمام العالم، بسرعة البرق. فلا يكاد يسقط قتيل أو يُعتقل صاحب رأي في أي بلد، إلاَّ والعالم كله قد أصبح في موقع الدراية به وبظروف وفاته أو اعتقاله، لكن الحقيقة، التي يجب أن نشير إليها في هذا المقام هي التي تتعلق بالجانب السلبي في تلك التقنية عند استخدامها، والتي قد تخلق ما يُمكن أن نسميه بـ «تعطيل الفكر السياسي».

فأكبر الأخطار التي تواجه الحركات الشعبية، هي أن تستغرق النخب الثورية وجماهيرها في استخدام مثل تلك التقنية ووسائل الاتصال الاجتماعي لحد الاستغراق، كونها سهلة ومتاحة بضغطة زر، ولا تحتاج إلى مجهود ذهني، وهو أمر يمنعها (النخب والجماهير) من قراءة التراث الإنساني لبقية شعوب العالم، في تعاطيها مع الشأن السياسي، وما كانت تقوم به من مبادرات، ومفاوضات وصراع من أجل تحقيق مطالبها. هذا الأمر يشكل خطورة حقيقية وجادة على الفكر.

كم من قادة الحراك السياسي في عالمنا العربي، الذين استدعوا تجارب التاريخ الثوري والسياسي، وعَقَدوا الندوات وورش العمل المكثفة، ودوَّنوا المطويات، القادرة على إيجاد عَصف ذهني، لقواعدهم الحزبية والشعبية لكي يطلعوا على ما سبقهم من تجارب سياسية غنية، قد تختصر أمامها الطرق والأوقات والمهمات؟ وكم منهم راقب حركة التاريخ، منذ عصر الأنوار، وما صحبه من تطور في مفهوم الدولة الحديثة؟ صحيح أن ظروف الدول والعالم بأسره قد تبدلت، لكن الحقيقة التي لم تتغيَّر هي أن ما كانت تطالب به الشعوب من حقوق سياسية، هو ذاته المطروح اليوم في الثورات العربية. هذا الأمر ليس تنظيرا أجوف، وإنما هو حقيقة جليَّة.

وسائل الاتصال الاجتماعي تقوم بدور الإعلام وليس التأسيس. وهي بالمناسبة وسائل يستخدمها حتى طلاب العبودية وزبائنها، ممن يعتقدون بالنظام السلطوي الجائر، ويؤيدونه بجهل وخنوع. وبالتالي فهي وسائل صراع ومنازلة افتراضية كذلك. أما العمل السياسي، فهو ليس إعلاماً فقط، وإنما تأسيسٌ أيضاً. وهذا النوع من التأسيس، لا يتحقق إلاَّ بالممارسة وقراءة التاريخ والتأمل فيه.

كل العلوم تعتمد على تراث فكري وعلمي وديني وإلى تضحيات، لكي تكون قادرة على المزاوجة بين الأمور. والسياسة وتخليقاتها ليست أمراً شاذاً عن ذلك، بل هي في حقيقتها حصيلة دماء سُفِكَت في الأزمنة الغابرة، ونتيجة اعتقالات ونفي أفراد، وتهجير، ومظاهرات قُمِعَت قبل قرنين من الزمان أمام الباستيل وفي مدريد وفي لندن وفي الأراضي الواطئة وغيرها من البلدان الأوروبية والآسيوية.

اليوم، موضوعات كثبات الشمس ودوران الأرض، لم تكن لتظهر أمامنا بهذا الشكل المنمَّق، لولا سجن ونفي العالِم الفلكي الإيطالي جاليليو. وما وضعه جورج ستيفنسون أو غالفاني أو فولتا، هي جذور العلوم التي أبدعوا فيها، والمتوفرة أمام أيدينا اليوم، بصورتها المتطورة. والحال في السياسة كذلك. فماذا عسى الفرنسيين أن يتذكروا وهم في جمهورية هولاند، غير غامبيتا وليتريه وفيري، وغير منظرِي الحقبة الثورية العظام. وماذا عسى البريطانيون أن يتذكروا غير روبرت سيسل وجوناثان سويفت، بل وحتى توماس بين وكرومويل وغيرهم من دعاة الجمهورية والثورية.

في كل الأحوال، تبقى قضية قراءة التاريخ السياسي والثوري للشعوب مسألة مركزية جداً، نتمنى أن تستفيد منها الحركات السياسية والثورية في العالم العربي، كونها تمنحهم ما يتوجب عليهم أن يفعلوه ويتجنبوه، فالسعيد مَنْ اتعظ بغيره.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3577 - الجمعة 22 يونيو 2012م الموافق 02 شعبان 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 9:02 ص

      سائس الجمل ودسائس لا تفسد العمل

      من المعلوم أن الجيوش تقاد والجمل يساس والحمار يحمل أسفار. لكن الشعوب ليست خيول ولا بغال ولا جيوش كي تقاد فما علاقة الشعوب بالهلوسة والوسوسة؟
      هل السياسة لا تربط بفيروس الهلوسة المسبب للوسوسة؟

    • زائر 2 | 3:32 ص

      140 حرف فقط

      صحيح فتويتر لا يطرح نظريات ولا خطط سياسية بل اقصى ما عنده ايصال رسائل بالكاد تصل الى 140 حرف

    • زائر 1 | 2:59 ص

      وسائل التواصل

      في الأنظمة القمعية تتم فيها محاربة اي نشاط سياسي مخالف لفكر النظام الديكتاتوري فعندما تلجا الاحزاب السياسية الى اعتماد التويتر مثلا كوسيلة اتصال فهذه ليست رفاهية بقدر ما هي الوسيلة الوحيدة المتاحة لها للتواصل مع قواعدها الشعبية فالنظام القمعي يمنع الندوات والمسيرات بل يمنع كل عمل ثقافي يساعد في بناء ثقافة ووعي الجماهير ولكن تبقى مسئولية الاحزاب السياسية هي المناورة للوصول الى الهدف في توعية الناس وبناء مخزون ثقافي

اقرأ ايضاً