ينبغي أن يتميز أي باحث بالحيادية والموضوعية والعلمية بعيداً عن الفكر الايديولوجي أو الميول الشخصية غير الموضوعية، ومن هنا كان تحليلنا الذي قدمناه لثورة 25 يناير/ كانون الثاني في مصر والقوى السياسية الفعلية التي قامت بالأدوار الرئيسة، ولقد أوضحت في كتابي «ثورة 25 يناير إطلالة استراتيجية» تلك القوى، مشيراً إلى دور الشباب في إطلاق الشعلة ودور القوى الحزبية القديمة والجديدة وخاصة القوى الإسلامية في تعزيز الشعلة ودور القوات المسلحة في حماية الشعلة، ولولا التعاون الثلاثي هذا، ما كان لثورة 25 يناير أن تنجح، وللأسف وقعت ثلاثة أخطاء أو أوهام غير علمية وفي مقدمتها: تصور الشباب أنهم هم كل الثورة، وتصور القوى الإسلامية أنهم كل الشعب، وتصور الجميع أن دور الأطراف الأخرى وخاصة القوات المسلحة انتهى، وعليها العودة للثكنات العسكرية. وكان ذلك هو أكبر أخطاء الأحزاب السياسية المتكررة منذ ثورة 23 يوليو/ تموز 1952.
وتكرر ذلك في هذه الثورة، وإن كانت قوتان رئيسيتان لعبتا دوراً أكثر عقلانية هي القوات المسلحة التي لم تكرر شهية التطلع للسلطة نفسها بما حدث مع ثوار 1952 نفسه، والقضاء الذي أصبح أكثر استقلالية ونزاهة من نظيره في عهد ليبرالية ما قبل ثورة 1952. أما المثقفون والإعلاميون للأسف فقط سقطوا بجدارة فقد نافقوا نظام حسني مبارك كما نافقوا الشباب، أما معظم الأحزاب السياسية فقد سقطوا سقوطاً نسبياً إذا تذبذبت موقفهم بين قوى الثورة وبين طموحاتهم الذاتية والحزبية، ولذلك عجزت الأحزاب القديمة، وعجز الثوار الشباب عن تحقيق مكاسب تذكر في الانتخابات البرلمانية الأولى النزيهة نسبياً، لأن قوى الإسلام السياسي استخدمت الشعارات الدينية والشعب المصري بطبعه متدين فسار وراء رافعي الشعارات، ولكنه سرعان ما أدرك الفارق بين الشعار السياسي وبين العمل السياسي، فكان تصويته في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية يعكس حكمة أجيال وحضارة شعب مصر وكذلك في الجولة الثانية.
لقد كانت أكبر أخطاء حزب الحرية والعدالة ثلاثة: أولها استمرار تبعيته للإخوان المسلمين ومرشدهم، وبذلك خلطوا بين الدين والسياسة، فأثاروا قطاعات عديدة من المجتمع وخاصة الأقباط والمسلمين المعتدلين. وثانيها أنهم تصرفوا بطمع سياسي فتحولوا إلى صورة مكررة من الحزب الوطني غير المأسوف عليه، وسعوا للاستحواذ على مختلف مفاصل الدولة، وثالثها إساءتهم للركائز الأساسية في الدولة بوجه عام، وفي الدولة المصرية صاحبة الحضارة العريقة بوجه خاص، هذه الركائز هي القوات المسلحة، القضاء، الشرطة. وهي الوظائف الثلاث الرئيسة في أية دولة وفقاً للنظرية الليبرالية، بمعنى دولة تعتمد مبدأ الحرية التقليدية.
الثوار من الشباب وقعوا في الأخطاء نفسها غير مدركين الفارق بين النظام واحترام القانون والحرية وبين الفوضى والنظريات الفوضوية التي عرفت في العديد من الدول بينها النظريات الفوضوية الفرنسية، ثم انساقوا تحت تأثير أوهام الديمقراطية والسياسة الأميركية وهي سياسة لا تطبق حتى في أميركا ذاتها ولا تصلح للتعامل بين الدول لأنها سياسات تدخلية تصور أميركا وأوروبا كمبعوثي العناية الإلهية للديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، ويكفي أن نسوق مثالاً من تدخلاتهم الكثيرة في مصر، ومنها إجراء وزير الدفاع الأميركي بانيتا اتصالاً مع المشير محمد حسين طنطاوي ينتقد فيها حكم المحكمة الدستورية بحل مجلس الشعب ويراه حكماً خاطئاً، وكان رد طنطاوي أنه لا يتدخل في القضاء. ونتساءل هل تقبل الولايات المتحدة أو أي من الدول الأوروبية تدخل أية دولة عربية أو إسلامية في أحكام القضاء الأميركي غير السديدة من وجهة نظرنا؟ أو في السياسة الأميركية المنحازة لإسرائيل، هذه هي العقدة الأميركية في السياسة الدولية، وهي التبشير بالديمقراطية، والخوف منها، والعمل ضدها في الوقت نفسه، إذا تعارضت مع مصالحهم كما حدث في الانتخابات الفلسطينية.
نقول إن ثلاث قوى نجحت بامتياز في التجربة الديمقراطية المصرية وخاصة في ضوء قراءة المؤشرات الأولية لنتائج الانتخابات الرئاسية:
الأولى: هي الشعب المصري الذي أقول دائماً إنه على رغم الأمية والفقر وأيضاً المهادنة لحكامه وصبره طويلاً عليهم فإنه مثل سيدنا يعقوب عندما قال لأبنائه: «فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً» (يوسف: 38)
هذا الصبر الذي جعل الشعب يضع ثقته في حسني مبارك بحسن نية ثم ثار عليه ويضعها في الإخوان المسلمين، ثم عاقبهم في الانتخابات الرئاسية في الجولة الأولى عندما لمس مواقفهم المتغيرة وإلى حد ما في الجولة الثانية، كما وضع ثقته الكاملة في الشباب ولكنه وجد منهم سرعة وتعجلاً وحاجة لمزيد من الخبرة فانضم الشباب أو بعضهم وأحزابهم وأحزاب يسارية وناصرية لمظلة الإخوان المسلمين في الانتخابات النيابية، وهكذا اجتمع خصوم أمس تحت مظلة واحدة هي مظلة الإخوان المسلمين أو بعبارة أخرى أنه زواج المصلحة السياسية وسرعان ما اختلفوا وافترقوا وهكذا اللعبة السياسية دائماً.
الثانية: هي قوة القضاء واستقلاليته الذي شعر بدوره يزداد أهمية منذ سقوط حكم مبارك، والواقع أن استقلالية القضاء كانت موجودة شكلياً في عهد مبارك واستخدم القضاء في الانتخابات للاستشهاد به ولكنه بوجه عام أظهره حياده النسبي أثناء حكم الحزب الوطني، ما أثاره فعدلوا الدستور للحد من هذا الدور القضائي المستقل. ولكن القوات المسلحة بعد ثورة 25 يناير حرصت على هذه الاستقلالية، كما حرص عليها رجال القضاء أنفسهم، وبرز ذلك في حكم محكمة استئناف القاهرة ضد حسني مبارك وحبيب العادلي وتبرئة أعوان العادلي، كما ظهر ذلك في أحكام المحكمة الدستورية حول قانون العزل وقانون مجلس الشعب والانتخابات، وهذا الحل للمجلس ليس جديداً فقد حدث العام 1987 في ظل نظام حسني مبارك. وكلما شعر القضاء باستقلالية كلما زاد دوره في النظام السياسي كقوة تحافظ على القانون وتحميه، وتحافظ على التوازن في علاقة السلطات. على العكس من ذلك مجلس الشعب في عهد الحزب الوطني وفي عهد حزب الحرية والعدالة توغل على السلطات الأخرى، وتحول لأسد هصور ضد القضاء، وضد الحريات العامة وضد القوات المسلحة وضد المثقفين والإعلاميين المستقلين، فانقلب عليهم الجميع، لأنهم لم يفهموا أبعاد العمل السياسي والتوازن السياسي في المجتمع كما حدث الشيء نفسه مع من سبقوهم في العام 1952.
الثالثة: هي القوات المسلحة وهي ينطبق عليها ما قال ماوتسي تونغ وغيره من الثوار: «إن السلطة تنبع من فوهة البندقية» وتاريخ القوات المسلحة المصرية تاريخ حافل بثلاثة أمور: البطولات، والنكسات، والحس الوطني.
البطولات من أحمس محرر مصر وطارد الهكسوس إلى رمسيس الثاني، وحور محب وغيرهم، وفي العصر الحديث أحمد عرابي وجمال عبدالناصر وأنور السادات. كل كان له مشروعه الوطني لبلاده ورؤيته واستراتيجيته، وأحياناً تحالف ضده الأعداء، وركزوا على نقاط ضعفه فأخفق في أهدافه. ولكن في جميع الحالات كان الحس الوطني والولاء الوطني، والإيمان بالوطن، هو دافعه، فعبدالناصر أطلق ثورة 1952 شاركه الآخرون من قيادة الثورة بما فيهم أنور السادات، الذي أطلق حرب أكتوبر المجيدة وبدأ عهد الحريات الاقتصادية والسياسية المحدودة.
أما المشير محمد حسين طنطاوي فلم يتهور، وأنا لست من المتحمسين لصبره الطويل، وأعتقد أن كثيرين مثلي، ولكن ثبت أن له رؤية ثاقبة، واعتمد على أعضاء المجلس العسكري والخبراء لبلورة هذه الرؤية وتنفيذها بهدوء أعصاب، وطول بال، ودقة بحيث يمكن القول إنه رجل المفاجآت، فلم يتوقع أحد انقلابه على حسني مبارك، ولم يتوقع أحد إمكانية حمايته لثورة ضده، ولم يتوقع أحد طول باله ثم تحركاته الحازمة والحاسمة في اللحظة المناسبة.
تحية لشعب مصر العظيم وأياً كان الفائز النهائي في الانتخابات سواء محمد مرسي كما تظهر النتائج الأولية، أو أحمد شفيق كما أعلن أعضاء حملته، فإن المنتصر الرئيسي هو شعب مصر، وليتوقف الخراسون المنافقون المرجفون دائماً بإثارة الشكوك في قدرة هذا الشعب، وفي نزاهة الانتخابات وفي حياد القضاء، وحياد القوات المسلحة، أما الشرطة التي عندما كانت تنحاز أو تسلك طريقاً خاطئاً كانت تلتزم بتعليمات القيادة آنذاك. وأقول للفائز بالرئاسة احرص على العقلانية والاعتدال وتعلم من حكمة الشعب، واعمل لمصلحة الشعب بأسره، أياً كانت ديانته أو مذهبه السياسي أو فكره فالجميع مصريون بلا أدنى تمييز وليحترم الجميع نتائج صناديق الاقتراع وهذه هي الديمقراطية.
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 3576 - الخميس 21 يونيو 2012م الموافق 01 شعبان 1433هـ