تصدر عن الأوطان أحياناً قدرات عجيبة غير قابلة للسيطرة عليها في اندفاع أبنائها لتأسيس وطن احترازي داخلهم يؤمّن لهم القدرة على الذود عنه في اللحظات والمراحل التي تكون فيها إمكانات السيطرة في دائرة الارتهان؛ بمعنى الحصانة الداخلية التي لا تحتاج أن تملي عليك ذهابك في الحب لتلك الأوطان من دون لعبة المصادفات والتواريخ والحوادث التي تملي عليك ذلك أحياناً. تقرر ذلك بنفسك أن يكون لك وطن احتياط ليس بديلاً عن الوطن الأم بقدر ما هو جبهة صمود وتصدٍّ لما قد يجدّ ويطرأ.
الروائي والشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف في قصيدته التي كتبها لأمّه «الوطن داغستان»، وإن كانت تتوجه في لغتها المباشرة إلى الأم التي نعرف ونحب ونهوى ونذوب صلواتٍ على أعتابها؛ ولكنه كان في العمق والتوجه من ذلك النص الذي سأورده ريثما أنتهي من تقديمه.
الأم/الوطن الذي لا يمكن أن تتعرف على عروق دمك وملامحك وذاكرتك بعيداً عنه. الوطن الذي يؤسّس لِقِيمة كل منّا وقدرتنا في الوقت نفسه على الذهاب في مواجهة صلف ومنغصات الحياة بثقة وإرادة بالغة وملفتة.
يكتب حمزاتوف: «إذا أحبكِ عشرة رجال
فأنا واحد منهم
وإذا أحبك خمسة رجال
فأنا واحد منهم
وإذا أحبك واحد منهم
ورأيت شحوبه
والشمس قد لوّحت وجهه
فهو أنا
وإذا لم تري ذلك العاشق
يعزف بقيثارته تحت نافذتك
وإن لم تسمعي وقع خطوات على الدرج
وأنتِ وحيدة في ليالي الشتاء
بالقرب من الموقد
اعلمي أن رسول حمزاتوف قد مات».
لا أحد منا يمكن أن يستسلم لوحشته ويتركها هكذا تعبث بأعصابه في محاولة لنسيان أرصفة وشوارع ومعابر ومقاهٍ، والأهم من كل ذلك عصب ومعنى التفاصيل تلك: إنسان تلك التفاصيل.
لن يعرف نعمة أن تكون في الداخل من الوطن والانتماء إليه بعيداً عن الذين يزايدون في المراحل المضطربة على ما عداهم من بشر ومواطنين ويجدون أنفسهم في اللب والقيمة من ذلك المفهوم فيما هم في لحظاته الفارقة التي تتطلب شهادة - مجرد شهادة على اضطراب الأحوال والموازين فيه، تراهم بمنأى عن المواجهة وفي الظل وطلب السلامة ببلادة شعور وضمير يمكن تمييزهما عن بعد ألف حسّ وشعور!
وأحياناً تجد نفسك مشدوداً ومنحازاً ومتمثلاً في الوقت نفسه مقولة تشيكوف «الصمت هو أحد فنون المحادثة»؛ في ظل هذر ومراهنات وتخوين وتسفيه وخلع وتحريض وإخراج من الملة والإنسانية. لا أحد يمكن له أن ينتزع منك تلك القيمة ويحدّد لك مجال النفي الذي من المفترض أن تكون فيه بحسب تقريره وأحياناً هلوسته!
في الأزمنة المضطربة التي لا تخلو من استقطاب أصحاب العقد والدجّالين والمنتفعين، تتعدد تعريفات وفهم كل واحد منهم للوطن الذي يرتئي ويريد. البعض يريده ماء سبيل يحتكره ولا يعود بذلك ماء سبيل؛ والبعض الآخر يريده حكراً عليه من دون أن يكون عرضة للسبيل؛ وبعضٌ ثالثٌ لا يرى قيمته ووزنه بعيداً عن الذين هم جزء منه وأدلّة عليه.
فليمعن المسطولون والغائبون عن فحوى ووقع الضريبة التي يدفعها الذين يحبون أوطانهم بامتياز مذهل، فيما يظنونه تسقيطاً ونيلاً من أولئك؛ لكن واقع الحال على الأرض يشير ويقرر أن الذين يحبون أوطانهم لا يسهرون على الفتن والنوائب كما يسهر بعضهم على حفل يرى فيه صحو الدنيا وإن ضجّ وعجّ بالانفصال عن واقع ما يحدث من حوله.
الأوطان عصية على التعريف بها. إنها شريان رئاتنا ذلك الذي لا نراه، ولكنه يقودنا إلى الحياة كما يقود الحياة نفسها.
إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"العدد 3575 - الأربعاء 20 يونيو 2012م الموافق 30 رجب 1433هـ
عذاري
للاسف استاذة الوطن اليوم صار مثل عذاري يسقي البعيد وينسى القريب شكرا لمقالتك المكتوبة باسلوب راقي جدا ومتانق كاناقتك سيدتي والحمد لله على السلامة وعودة ميمونة
الحمد لله على السلامة استاذة
من الجميل ان يستيقظ الانسان ويقرا جريدته ليجد اسمك من جديد استاذة سوسن دهنيم ،اما بالنسبة للمقال فهو جميل جدا يتكلم عن نقطة حساسة وهي الاوطان التي نحبها ولكنها للاسف تفتح ابواب قلبها للغير وتطردنا غالبا ، استمري في كتابتك ونحن سنستمر في مطالبنا الى ان يرجع لنا الوطن عاشقا معشوقا
ابو سيد علي