العدد 3575 - الأربعاء 20 يونيو 2012م الموافق 30 رجب 1433هـ

تيْهٌ لا أثر يدلّ على حضور فيه

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

كأن تحاول رتق فتق يمتد من المشرق إلى المغرب. كأن تحاول نفخ الروح في مجزرة منذ تاريخ وحادثة الحسد الأول في تاريخ هذا الكوكب. كأن تحاول أن تجر حائطاً إلى الاعتراف على من عبر من القتلة إلى الدم الذي سفك في المداخل التي ألفتَ وعرفتَ.

ذهب الزمن السمح ببشره. بقي النادر من السمح من البشر؛ لكنهم خارج المعادلة وخارج الحسبان ضمن اشتراطاته التي تريد التأكد من إخضاع كل مخلوق وشيء إلى أجهزة مصادرتها واحتوائها.

الزمن الجميل الذي تلوَّث بالانتهاك والدم وتم التجرؤ والتطاول عليه من قبل من لا قيمة ولا معنى لهم في تميز وفرادة الذين صنعوا الحياة بحركتها وقدرتها على إبهار واستدراج الإنسان في الوقت نفسه؛ لكي يكون أكثر تجرؤاً على الصعب فيها والمستحيل الذي يراد له أن يكون مقيماً وثابتاً، وفي أكثر تطورات هيمنته، تحوّله إلى عقيدة ومنهج.

أعلم أن الإنسان هو من يصنع زمنه؛ شرط أن يكون في اللبّ من الخيار والعمق من ثقته في الجهات التي ينتخب، والحلول التي يرى لا أن تفرض عليه من عل؛ لا علوَّ فيه بطبيعة ممارسته على الأرض في الإذلال وضمّ كل ما يستطيع ضمّه وتحويله إلى زرائب مفتوحة على اللاخيار.

ندخل مرحلة ترميم ما يمكن ترميمه من زمن مُوغل في نصَبه وتعبه وانهياره بفعل غياب أو وهْم حضور الذين ينتسبون إليه. ندخل مرحلة تجاوز الشرط والنظام الطبيعي الذي يفرضه الوقت بعيداً عن قدرة الذين من المفترض بهم أن يكونوا حرّاساً عليه في العمق من يقظتهم كي يأخذوا به إلى تفاعله وتنشيطه لكل همود وخمول.

تحضر الخسارات في الزمن الذي ننتمي إليه، ونحاول بشق الأنفس أو فتحها إعادة النصاب إلى حيادها الذي لم نرتضِ لأننا نريد في شكل أو آخر أن نستأثر بحصتنا في هذا التكالب الذي يرى في الوقت والحياة مناجم من ذهب تخصيص كلما أتاح الوقت الشحيح والعابر لنا ذلك.

في الستين والسبعين وحتى التسعين أزمنة امتص ماؤها ودمها وعصبُها وحيوية ذاكرتها ويراد لها أن تعلّم الأجنّة معنى أن تكون متأهّبة لأي هبَّة وتسلل تصاب به الأوطان التي تركت حدودها نهباً للأوصياء عليها من جهة؛ والذين يبحثون عن منافذ تسويق لنفاياتهم وما هو أرقى من ذلك قليلاً من جهة أخرى.

أصعب المراحل أن تكون ضيفاً على زمن تنتمي إليه وتكون ثقيل ظل في حضرته، ويبحث عن مخارج وطرق للتخلص منك بعيداً بحيث لا يمكن أن يراك لا بعينه المجردة أو المؤطرة بعدسة تقريب نظر.

لا نريد الخضوع إلى التعريف المكرَّر والبليد في الوقت نفسه: «الوقت سيف إن لم تقطعه قطعك». بإرجاع الوقت إلى أداة هدر للدم. ليست تلك وظيفته. من حق الزمن ألاَّ ينتظر الذين يتوهَّمون أنه في خدمتهم في أي وقت كعامل في مطبخ فندق يمكن الطلب منه ما يسدُّ جوع ونهَمَ أيّ واحد منا. لا نريد للزمن أن يكون سيفاً. ما المشكلة والمأساة التي يمكن أن تحدث فيما لو تحوَّل الزمن إلى وردة؟ نعيش ونتعامل مع أزمنة يحنُّ بشرها إلى ماضٍ تسمع نشيجهم وحتى احتضارهم فيما لو عمدت إلى المسّ بطرف منه. كأنك تمسُّ رحابة الأرواح والأنفس التي يتوهمون مواصفاتها تلك في ظل احتباس يطول كل شيء.

ثم إن الزمن الذي يرتجف المنتسبون إليه لن يؤدي بك إلا إلى ما يدل على خيبتك ورعدتك مما هو اختبار لروحك وفحص لقدرتك على مواجهة غول هو في واقع الأمر ما دون الهشاشة إن أردت وواجهت.

لا أزمنة يمكن التعويل على أثرها وتأثيرها حين تكون خارج نطاق التحكُّم بها بخيار لا يتم إخضاعه للتأميم، ولا يتم توجيهه وفق مزاج أو وفق مصالح تبرز هنا وهناك، وبين هنا وهناك لن تجد الإنسان الذي هو موضوعها وقيمتها إلا محض تطفل وإقحام يجب وضع حدّ لهما.

الزمن لدى أمم خلقت لتحيا ويحيا معها ما تمر به أو يكون تحت تعهدها يطرح مواليد يعيدون ترميم الخراب الذي خلّفه أسلافهم أو من هيمن على أسلافهم، ولدينا الزمن فرصة لشحذ أدوات إرسال من لا نلتقي معهم إلى جحيم نتولى تأثيثه والتأكد من قدرته على ممارسة دوره في السلْخ والمحو كما يجب. ليس فقط أولئك الذين لا نلتقي معهم في عقيدة أو ذوق أو اهتمام؛ بل حتى أولئك الذين لم يقدر أن نعرف عنهم أدنى شيء، وذلك الجهل بمعرفتهم كفيل بأن يكونوا ضمن موازنة ترحيلهم إلى حيث نرى من فراغ وخواء أزمنتنا.

كل شيء برسم الاختطاف. لا زمن بين أيدينا يمكننا أن نصنع منه وبه أمكنتنا، وتجاوز حاجاتنا التي لا نهاية لها في ظل هذا الاتكاء أيضاً على من بيدهم القدرة كل القدرة على الهيمنة على زمنهم وتوجيهه في المسار الذي يرون ويريدون.

هَرِمنا في البحث عن أزمنة، الضمير خريطتها، والإنسان وجْهتُها. نبحث عن ملامحنا في هذا الاكتئاب الدهري الذي طال مكوثه. نبحث عنّا في هذا التيه الذي أصبح علامة حضور لا أثر يدلّ عليه.

نصرخ: كيف لنا أن نحيا من دون زمن؟

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3575 - الأربعاء 20 يونيو 2012م الموافق 30 رجب 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً