في الممشى الذي أرتاده بشكل يومي تقريباً تلفت نظري امرأة في سنواتها الثمانين أو أقل من ذلك بقليل، ترتدي حذاءً رياضياً وتمشي مشية سريعة متصابية، واثقة الخطو تطوّح يديها بخيلاء وسعادة لا تخفى. تمشي هذه الثمانينية وشعرها الذهبي ينفلت خصلات طائشة من تحت العباءة التي ارتدتها على عجل. كل من يرتاد الممشى يعرف هذه السيدة التي ما أن تراها حتى تغالبك ابتسامة إعجاب ليس لأنها تتحدى بإرادة عجيبة سنواتها الثمانين، بل لأنها تخلق جواً من الحبور في المكان، ذلك أن كل من يعرفها يحرص بعد تقديم التحية على أسماعها تعليقاً لطيفاً أو عبارة مستفزة تجعلها ترطن بكلمات مازحة وتعليقات تنطوي على سخرية لاذعة.
هذه السيدة اختارت أن تستمتع بحياتها، أن تغالب شيخوختها لا أن تستسلم لها، والأهم أنها اختارت أن تفعل ما تريده هي، لا ما يريده الناس لمن هم في عمرها.
قرأت ذات مرة قصة شخصين ألمّ بهما مرض مميت، وقد قال لهما الطبيب إن الموت يتحين الفرصة المناسبة للانقضاض عليكما وهو على مسافة ستة أشهر فقط وبعدها المنية. فماذا فعل هذان المريضان؟
تقول القصة إن الأول استسلم إلى ذل المرض، وبخنوع راح ينتظر قدره الأليم، امتنع عن الطعام وازدادت حالته سوءاً يوماً بعد يوم، بينما راح الثاني يلتهم بشراهة كل ما يجده من طعام، ويتلذذ بكل لحظة من لحظات حياته مع أصحابه وأهله ومحبيه، وجرّب كل الصبوات المباحة، وارتاد الأماكن التي كان يحبها أو التي تمنى أن يزورها، وعندما سأله المريض الأول: لماذا تفعل كل هذا وأنت تعلم أنك ميت لا محالة؟ فأجابه: لأنني أريد أن أموت وأنا بصحة جيدة! والنتيجة أن الأول مات قبل الميعاد المحدد له، بينما استمر الثاني يتنعم بحياة طويلة. لا أدري إن كانت هذه القصة من نسج خيال كاتبها أم هي قصة واقعية ولكن العبرة فيها لا تخفى.
كثيرون تسيرهم الحياة، ويفقدون فيها زمام السيطرة على عالمهم في ظل فوضى الالتزامات وحياة التشرذم التي نعيشها، وكثيرون يظنون أنهم يختارون ما يريدون إلا أنهم في واقع الأمر ليسوا كذلك، تسيّرهم العادة وتقيّدهم الخيارات الوهمية، ويشغلهم العالم الافتراضي الذي صار يلتهم حياتنا الواقعية بشراهة مخيفة. ما هي هذه الخيارات الوهمية؟
الخيارات الوهمية هي كل ما اعتاد عليه الإنسان بحكم العادة لا بحكم الخيار الواعي. هل سأل أحدنا نفسه لماذا أقوم بما أقوم به دائماً؟ وما المردود النفسي والاجتماعي والروحي والفكري من هذا العمل المعتاد؟ ورد في الأثر: «العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق، لا يزيده سرعة السير إلا بعداً».
كثيراً ما نسمع في حياتنا أشخاصاً لا يكفّون عن الشكوى والتذمّر من كثرة الالتزامات وأعباء المسئوليات التي لا تنتهي، وأستغرب من هذه الهرولة نحو هذه «العبودية الاختيارية»، إذ كيف يختار الإنسان أن يُشقي نفسه بالركض الدائم بغية تحقيق كل شيء وإذا به لا يحقق أي شيء. يبحث عن سعادة فيفقدها ولا يناله من هذا المسعى الخائب إلا نَصَب المحاولة وتعبها.
أتذكر أن الإعلامي الكويتي الظريف نجم عبدالكريم قال في واحدة من المقابلات التلفزيونية إنه جرب في حياته أن يكون ممثلاً مسرحياً وسينمائياً وشاعراً، ومغنياً، وإذاعياً، وكاتباً صحافياً، ثم علق بعفويته المعهودة: «أردت أن أنجح في كل شيء، وهو ما جعلني أفشل في كل شيء». لكنه أكد أن الشيء الوحيد الذي بقي معه هو القلم والكتاب.
يسلك المرء أحياناً - بدافع الطموح الجامح - دروباً صعبة، وطرقاً متشعبة لإثبات ذاته، وحتى يثبت لنفسه ولمن حوله أنه قادر على فعل المستحيل، من دون أن يتيقن من مدى قدرته واستعداده الكافي على القيام بكل هذه البطولات.
الأهداف الكبيرة هي عبارةٌ عن أحلام تتبرعم جنيناً في مستقر عقل الإنسان، ثم تتحول إلى واقع عندما يجد صاحبها الأسلوب والطريقة المناسبة لتحقيقها. وكما أن التخاذل والاتكالية والكسل ممنوع، فإن المبالغة في تقدير ذاتك وقدراتك يوقعك في مهاوي التخبط والفشل.
أعرف إحدى السيدات الناشطات ممن لهن قدم راسخة في العمل التطوعي والاجتماعي، تعيش هذه السيدة حالة طوارئ يومية لثلاثين يوماً في الشهر على مدار العام، لها في كل نشاط اجتماعي حضور وأثرٌ بيّن، تجدها في كل النشاطات الدينية والاجتماعية والسياسية، ولم تكتف بذلك، بل حوّلت منزلها إلى نادٍ اجتماعي تقام فيه المناسبات الدينية وتجري فيه بعض الأنشطة الثقافية للنساء والأطفال، والحال أنها على الصعيد الشخصي ليست سعيدة، فحياتها الصاخبة تفتقر إلى التنظيم والسكينة والراحة، ويعوزها التركيز الذي هو دعامة أي عمل متقن.
لا يحتاج المرء إلى برنامج عمل مكتوب ومطول، كل ما يحتاجه هو أن يكون منصتاً جيداً لذاته، في الكتاب المخصص لسيرته الذاتية يقول الملياردير السعودي الوليد بن طلال: «إن أعظم الأفكار الرائعة تأتيني وأنا في عمق الصحراء، حيث السكينة وهدوء النفس». امنح نفسك وقتاً لمراجعة حياتك، قيّمها بصدق، وضع لنفسك أهدافاً بسيطة وواضحة تسعى لتحقيقها، فالاستمتاع بالعمل على تحقيق الأهداف الكبيرة أفضل حتى من لحظة اكتمال الإنجاز ومرحلة جني الثمار.
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 3573 - الإثنين 18 يونيو 2012م الموافق 28 رجب 1433هـ
اذا لنختار ان نكون مثل العجوز
كتاباتكم رائعه با بو علاء نتمنا لكم التوفيق