حين أقول: لا أثر يدلّ على الحاضر (عربياً)؛ ذلك يعني أن المستقبل لن يأتي؛ لأنه وببسيط العبارة لا يريد أن يحضر من دون أن يجد أحداً. أعلم أن المستقبل لا يأتي وإنما يُؤتى إليه. يؤتى إليه بملكات تؤهّل لأن يكون المنتسبون إليه قادرين على الاتصال به وفهم اشتراطاته والتأسيس للإقامة فيه وما بعده.

حاضر لا شيء يدلّ عليه. عبارة مستفزة أليس كذلك؟ لكن الأكثر استفزازاً أن يستمر في وهْم مراكمة اللاأثر والبناء في مساحات عملاقة من الوهم أيضاً في بُقَع لا تحتمل ضغط قدم؛ عدا ثقل استحقاقات العبور من اللحظة التي نقيم فيها إلى ما بعدها.

كيف يحدث ذلك فيما الانشداد إلى اللاأثر واللاقيمة والاكتفاء بلعن الذين يُنجزون ويسهرون كي نختصر كل ذلك سياحة وشراء لذلك السهر بمدد فوائض النفط أو فوائض فراغ ومضاربات تشمل كل شيء. تشمل جدوى الوجود الذي قد يجد نفسه أول بنود تلك المضاربات.

الذين جاءوا إلى حاضرهم واثقين من إمكاناتهم لم يكتفوا بتلك الثقة. بنوا عليها وراكموا. والمستقبل الذي ينشدون ويتطلعون إليه لا يمكن أن يكتفوا بالانتساب إليه عبر ثقة تأتي هكذا من دون صلابة تعززها وإبهار يقدّمها وإنجاز هو مفتاح الولوج إلى عضوية مستقبل تتوخاه.

حين لا ترى أثراً يدلّ على الحاضر؛ فثق أن انشداداً إلى الماضي وبعدمية خيار هو الغالب والمتحكّم في الزمن وتفاصيله. وهو انشداد في أردأ صوره والخيارات.

كأن الزمن يعاني من تصلّب في شرايينه ولا دم يمر عبرها. الزمن حاضر كمومياء. ربما ذلك هو التعبير الأكثر دقة واللائق بواقع الحال.

حاضر متشبّث بمضجعه لا يُعدُّ حاضراً. هو في ما بعد غيابه. المضجع مساحة عزل وانسلاخ عن الزمن المعاين والمراد عبره إحداث فارق فيما هو قائم وماثل. الفعل والحركة معطلتان في هكذا زمن بمواصفات مخزية كتلك. الأعمار في ذلك صنفان: صنف نقضيه في غياب الفعل والأثر وصنف هو في اللب منهما.

الحاضر الذي يتفرج أهله ومخلوقاته من خلاله على إنجازات الآخرين، لا يتجاوز الماضي في جمود حركته في عمر الزمن، بعيداً عن مسألة التمثّل والغفلة ومحاولات التجاوز التي تتكئ على عدمها. ما دون ذلك هو ماض في أردأ صوره وتعطيل كل قيمة فيه. ثم إن كل حاضر مهان لا علاقة له بالزمن أساساً وتصنيفه. إهانة الزمن وبشره موت آخر، وغياب يمكن التعرّف عليه من دون الحاجة إلى عبقرية وتفتّق ذكاء وقدرات ونظر.

إهانة إنسان الحاضر في الدرجة الأولى سبب رئيس لتأكيد أن حاضر الوقت لا أثر يدل عليه. الإنسان دليل مراحله ووقته وليس العكس.

كأن الحاضر - بل هو كذلك - باحتباس دور الإنسان، احتباس لأعمار الخليقة في المكان نفسه، ضمن مساحة عملاقة ومفتوحة ولا نهائية من الوهم، يتم إخضاعه لمن لا استعداد ولا كفاءة ولا منطق ولا مبرر لديهم لتجاوزه ذهاباً إلى المستقبل.

بعضهم يتلمّس المستقبل فيما هو متورط فيما دون الماضي بمراحل. بعضهم يرى في ماضيه مستقبلاً. بعض ثالث يرى حاضره نهاية كل وقت. بعض رابع يرى في المستقبل تجرؤاً على خالق الزمن بالتورّط في نبوءات لا تبقي ولا تذر أثراً لإيمانه الموغل فيما كان وما بعده يعد ضرباً من كفر وزندقة. وصلنا إلى مجرد التفكير في المستقبل لأخذ رقم في طابور طويل من التجرؤ والزندقة الحديثة!

وبالنظر إلى الذين صنعوا مستقبل ما سواهم لم يكونوا رهن انتظار فرَج أرضي؛ أو سماوي. كانوا يصنعون ويقرّرون فرَجَهم بالفعل والحركة والمشاكسة في اقتراح أشكال ومضامين لشكّل الوجود الذي يريدون والمستقبل الذي يتوخون. بالمواءمة بين الممكن واللاممكن من دون أن يعني استسلاماً لفزّاعة اللاممكن؛ إذ كثير من الأحيان يصبح اللاممكن بفعل إرادات ملفتة ومتحفزة أقرب إلى الممكن من حبل الوريد.

كأنّ المستقبل تعرية لمن لم يأخذوا احتياطهم في التدرّع لمواجهته.

كأن الحاضر المغيّب بشره خارج تصنيف الزمن وخارج الاحساس به.

وحين يُكثر الشاعر والمسرحي السوري محمد الماغوط من التذكير بالغفلة والبَلاَدَة وإقامة الغياب التي رصَدها من خلال عدد من أعماله مختصراً ذلك بالقول: «لا تنحنِ لأحد مهما كان الأمر ضرورياً»، يُمعن في تحريضه على الذهاب إلى المستقبل، ويمعن في تأكيد تلمّس وتحسّس معنى لكل ذلك يطول كل واحد منا.

ضرورة انحناء لا بمعنى الخضوع بوصفته الراهنة البذيئة؛ ولكن بمعنى أن تواجه عوائق وحواجز يكون فيها الانحناء لتجاوزها ضرورة لاستمرار حيويتك وتحايل تلك الحيوية على الألغام والأفخاخ وما يتبعها أيضاً من حرير إغراء في مضامين أسوار وحديد.

أرى الحاضر (عربياً) قدرة عجيبة على التأجيل. تأجيل مصائر وخطط وقدرة على التغيير وإمكانات التميز. كل ذلك يُترك في انتظار حافلة؛ أو شاحنة تمر حاملة كل ذلك إلى المستقبل! كأن المستقبل في نهاية المطاف (عربياً) مكبّ نفايات!

أنظر إلى الحاضر باعتباره عتَبَةَ بيت تصلني إلى صحن الدار وتفاصيلها. المستقبل هو صحن الدار والفضاء المفتوح بعدها. الحاضر عليه أن يشقى ونشقى معه كي نرتفع قليلاً.

أيها المستقبل بصراحته ورفض الواسطات التي تنهمر من جهات الفراغ المكتنز بأموال وفوائض أرصدة النفط التي لم يبذل المستحوذون عليها أي قطرة عرق عدا الدم. كأنك أيها المستقبل بذلك تشعل فتناً، فتن قلب موازين ورد شفاعات من لا أثر لهم سوى انهم استيقظوا ذات يوم على امتلاك كل شيء؛ فيما الآخرون لا يملكون حتى حق التنفس والمشاركة في أوكسجين الله.

أيها الحاضر بعكازه المهترئة؛ كيف لعجزك أن يخترق سباق اختراق الضاحية وماراثون العالم؟ كيف لأعصابك المهترئة وكرشك المتهدل أن يتجرأ على رشاقة المستقبل وحيويته؟ أيها الحاضر المسكون بالخرافات و «أم الخضر والليف» و «ليلى والذئب» و «أم حمار» وكل وصفات وعناوين الغياب أو الغيبوبة ومضامينها التي لا تُرى، كيف لمثل هذه المساحة المركّزة من العتمة والظلام أن تشق طريقها إلى إضاءات العالم ونهاراته؟