تعيش سورية مشهدًا مُركَّبًا ومُرعبًا في آنٍ. هناك ثورة شعبية ضد نظام استبدادي دموي، وهناك صراع مسلح بين معارضة مسلحة والنظام، وهناك صراع دولي على الداخل. هذا الخليط، يجعل من الأمور مُقلقة للغاية. فالمركبان الأخيران خطيران على الثورة السورية وشرعيتها؛ لأنهما وباختصار، يقتلان الجانب المدني في التغيير، ليصبح مستقبل الصراع مرتبط بمصير قوتين مسلحتين على الأرض، تتقاتلان بالسلاح الخفيف والثقيل، ليكون لهما (بالتالي) كامل الصلاحية في القتل والاستهداف والأسْر كلٌّ بحق الآخر.
مشروع الثورة، هو مشروعٌ حسّاس جدًا. هكذا كانت شواهِد التاريخ. حسّاسٌ تجاه شرعية حركته القائمة أصلاً على أصالة الثورة وعناوينها وما تريده من ديمقراطية ونظام تعددي ومساواة، وثانيًا فهي تقوم على النخب المدنية الديمقراطية، المدعومة من القاعدة الشعبية. وبالتالي فهي وعندما تتورَّط في صراعات دموية، يصبح حالها كحال حكومة الثورة، التي تجنح صوب التصفيات الداخلية أو نحو التوسع الإمبريالي، أو الحروب خارج الحدود، فتفقد مشروعيتها.
ربما هنا، نستحضر الوضع المزري، الذي جَلَبَته بعض الثورات وحكوماتها لاحقاً عندما تأسست بعد الانتصار الثوري ضد الرجعية، والنظم السلطوية. فمشروع نابليون بونابرت أثر سلبًا على الثورة الفرنسية، عندما استغرق في استخدام البندقية، وأصبحت الجمهورية الفرنسية، أقرب إلى الحكم العسكري الراديكالي، وما تلاه ذلك من انفضاض جمهور عريض عنه من القطاعات الشعبية، وقطاع المثقفين والفنانين والتكنوقراط. هذه طبيعة الثورات، وطبيعة الأنظمة التي تتلو الثورات عادة، ومدى قدرتها على المحافظة أصالتها، والتاريخ لا يعجز على ذكر المثال بشأنها.
الثورة السورية العظيمة، لم تكسب شرعيتها فقط من خلال أصالة مشروعها وعنوانها الديمقراطي، وانتساب قطاع عريض من القوى المدنية إليها، سواء في الخارج أو الداخل، وإنما من خلال مناهضتها نظامًا استبداديًا دمويًا جعل من سورية ماخورًا للفساد المالي، والرشا، وقتل الكلمة والإبداع، وقتل فيها أيَّ مشروع سياسي نهضوي قائم على دولة مدنية تعددية، طيلة أربعة عقود، بحجَّة صراعه ضد الصهيونية والإمبريالية، وبالتالي تأتي الخشية من هذا المنبت الخطير. وعليه، فإنني هنا، أسجِّل عددًا من الملاحظات بشأن النظر في عسكرة الثورة السورية، وخطورة ذلك على حقيقة المطالب السياسية المشروعة للثورة السورية:
أولاً: إن أكثر ما كان يطمح فيه النظام السوري، هو أن تتحوَّل الثورة، من حراك شعبي مدني، إلى أعمال عسكرية مسلحة؛ والسبب في ذلك واضح جدًا، وهو أن ذلك الجنوح يمنح بطشه وآلته الحربية ضد ذلك الحراك، شرعية القتال ضد الثورة، عبر التستر بحجة ضرب خصم عسكري، وبالتالي يتشاطر معه في مفهوم الصراع على الوجود، في الوقت الذي كانت فيه الثورة أيام مدنيتها وسلميتها، تعرِّيه، وتسلبه أيَّ مُسوِّغ لأن يقتل أحدًا من منتسبيها، كما رأينا ذلك في حراك درعا الأولي. وحتى عندما يفعل، فإنه لا يجلب لنفسه نصرًا وإنما وبالاً متراكم. فالعلاقة هنا طردية، بامتياز، فكلما زاد البطش الحكومي ضد الناس العُزَّل، زادت المشروعية والأحقيَّة للعمل الشعبي، كون ميزان القوة، غائب تمامًا بين الطرفين. وربما أدركت هذه الخطورة معارضة الداخل، المتمثلة في هيئة التنسيق الوطني أكثر من معارضة الخارج المتمثلة في المجلس الوطني السوري.
ثانيًا: العمل المسلح ضد دولة متماسكة (كما هو حال النظام السوري القائم على عبادة الحزب) يضاعف المهمَّة على الثورة. فهي تجعل من العمل المسلح يطول ويطول، ويتمدد أفقيًا، الأمر الذي يؤدي عادة إلى انهيار اقتصادي مريع في كل المناحي، ويحوِّل الدولة ومؤسساتها وبناها الاجتماعية إلى نموذج كسيح وغير قادر على النهوض، بعد سقوط النظام الديكتاتوري. فهذا النظام، يعتمد في معركته على كل خيرات الدولة وموازنتها، وبالتالي فهو يتغذى عمليًا على كل ما يُمكن أن يُؤخذ من الدولة والأرض، بما فيها صناديق الأجيال القادمة، وبالتالي فإن مفاعيله الحقيقية، هي من ذات الدولة المتآكلة حتمًا، والتي ستكون قاعًا صفصفًا بعد اندحاره.
التقديرات الحالية لخسائر الصراع في سورية اليوم بلغت زهاء 25 مليار دولار. نصف مساكن حمص مُدمَّرة. تسريحات متتالية من القطاع العام. نصف مليون لاجئ سوري داخل دول الجوار، ومليون لاجئ في هجرة داخلية من محافظات إلى أخرى. مئات الآلاف من المحال التجارية تضررت جزئيًا أو كليًا، شبكات الصرف الصحي والكهرباء وأبراج الاتصال، وخطوط المواصلات وأنابيب النفط والغاز، كلها تضرَّرت بشكل كبير. هذه الأمور تجعل من حكومة الثورة لاحقًا حكومة عاجزة اقتصاديًا، ومرتهنة للمانحين عندما تعقد المؤتمرات في باريس واحداً واثنين وثلاثة. وعندما يحدث ذلك، تصبح الإملاءات السياسية على حكومة الثورة أسهل من أي وقت آخر.
ثالثاً: يدفع العمل المسلح البلد إلى أن يكون مشطورًا بين خصمين لهما امتداداتهما في الخارج. وفي واقع الحال السوري، فإن النظام تدعمه روسيا والصين ودول إقليمية وأخرى من أميركا اللاتينية. والمعارضة تدعمها الولايات المتحدة الأميركية وأوربا ودول إقليمية. وهنا، تصبح سورية ساحة لاعتراك الآخرين على أرضها، واختبار قوة كل طرف بداخلها، بل وجعلها مجالاً للمساومات، والتي هي في حقيقتها، مساومات على السوريين أنفسهم. وهو ما يجري بحقيقته على الأرض. وكلما زادت وتيرة تدفق السلاح، زاد القتل بين المدنيين. لذا، فإن من البُله أن نتصور، بأن السلاح يذهب للاستعراضات العسكرية، أو للضغط فقط المتبادل، بل هو اليوم يتم استخدامه بشكل جنوني ومخيف، بين الشوارع والأزقة، دون حساب من أحد أو الخوف على أحد.
رابعًا: خطورة العمل المسلح، هو في عدم القدرة على ضبطه والسيطرة عليه. فسورية، بلد متعدد الطوائف ما بين سُنَّة وعلويين وشيعة ودروز وإسماعيليين ومسيحيين، بل هي مهد المسيحية في الشرق. وهذه الطوائف، هي الأخرى مقسومة في ولائها السياسي للنظام. وهؤلاء يقطنون في محافظات وقرى ومدن بعينها، وبالتالي، فإن الولاء متمدد أفقيًا هو الآخر. وإذا ما تخيَّلنا أن السلاح يُغدَق على مدنيين ينتمون «نسَبِيَّاً» و «دينيًا» إلى هذه الطوائف والأديان، المتوزعة على كل محافظات سورية الأربعة عشر، فلنا الحكم إذاً في أن نتفكر، فيما سيؤوون إليه الصراع.
اليوم، ووفقًا للساعة السكانية الديمغرافية في المكتب المركزي للإحصاء في دمشق، فإن عدد سكان سورية هو 21 مليوناً و608 آلاف و108 نسمة، وأن عدد السكان يزيد في سورية كل ساعة بمقدار واحدًا وستين نسمة وهذا يعني، أن المجتمع السوري، مجتمع فتِي، وأن نسبة الفتوَّة فيه قابلة للزيادة بشكل كبير، وهو من أكبر المحفزات إلى الصراعات العسكرية، وتثوير الأنوية الدينية والاجتماعية المتباينة واللعب عليها.
أقصى ما يتمناه أي عربي حر، أن ينعم الشعب السوري العزيز، بنظام سياسي غير هذا القائم اليوم. نظام غير مهووس بفرض الأمن، وبنظام يراعي الحقوق، وفيه تداول سلمي للسلطة، وأيضًا أن تتنبه المعارضة السورية، إلى الخشية من مخاطر التسليح والعسكرة.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3570 - الجمعة 15 يونيو 2012م الموافق 25 رجب 1433هـ
سقطت ورقة التوت وبان ما كان مخفي وان الليل زائل ... علماني يساري
استوقفني المقال بعد ان قرأته على عجالة ورأيت لزاما أن اقرأه مرة أخرى ولكن في تأني لأفهم وجهة نظر الكاتب ، وكم استغربت من هذا العقل الذي يعد مخالف لما تعودنا عليه في مدح فريق على آخر وفقا لقاعدة العاطفة والهوى ، وبما ان النظام السوري نظام الممانعة فأني لم اتخيّل ان كاتب في وسطنا يتجرأ ان ينتقد دولة الممانعة التي ظلّت طوال 40 عام تطبل على هذه النغمة جاعلتا اياها ورقة التوت التي تخفي حقيقتها من اضطهاد لشعب وسلب كامل حقوقه ، نعم سقطت ورقة التوت وظهر المخفي ، شكرا لكاتب هذا المقال وعاش الشعب السوري
تحليل متوازن وعميق
المشكلة تكمن في الفكر والعقليلة الحجرية التي دخلت على الساحة السورية لتحرف توجهات الثورة السورية ، مدعوما من الخلف بفتاوى الظلام .. والمال الهدام في أصقاع عالمنا العربي والإسلامي