كعادة بعض الحكام في كل زمان ومكان الذين يطربون لمديح الشعراء ولما يركّبونه كقطع (اللوغو) من كلمات من هنا وهناك من قواميس اللغة العربية ومن عيون قصائد الشعر العربــي في القرون السابقة؛ ذهب شاعرنا إلى أحد السلاطين وأنشده شعراً، فانتشى وضحك حتى بانت أسنانه، وقال: أحسنت.

وبما أن خزينة الدولة وأموال الأمة ليست من جيبه الخاص وهي مُلك مشاع له وحده فقط دون بقية العباد؛ فقد قال لشاعرنا: اطلب ما تشاء. قال الشاعر: أو تعطيني ما أطلب؟ قال السلطان: أجل. قال: أريد أن تعطيني بمقدار الرقم الذي أذكره في كل آية قرآنية. قال مستخفاً بما طلبه الشاعر: هذا أمر بسيط، لك ذلك.

فبدأ الشاعر بقوله: قال تعالى: «إلهكم إله واحد»، فأعطاه ديناراً. قال: «ثاني اثنين إذ هما في الغار»، فأعطاه دينارين. قال: «لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة»، فأعطاه ثلاثة دنانير. قال: «فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك»، فأعطاه أربعة دنانير. قال: «ولا خمسة إلا هو سادسهم»، فأعطاه خمسة وستة دنانير. قال: «الله الذي خلق سبع سموات»، فأعطاه سبعة دنانير. قال: «ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية»، فأعطاه ثمانية دنانير. قال: «وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض»، فأعطاه تسعة دنانير. قال: «تلك عشرة كاملة»، فأعطاه عشرة دنانير. قال: «إني رأيت أحد عشر كوكباً»، فأعطاه أحد عشر ديناراً. قال: «إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله» فأعطاه اثني عشر ديناراً. ثم تخوّف السلطان على أموال الشعب كما يبدو أن تنفد على بعض الشعر! فقال لخازن بيت المال: «أعطوه ضعف ما جمع واطردوه»! فاستغرب شاعرنا قائلاً: لماذا يا مولاي، هل تراجعت عن وعدك؟ قال السلطان: «لا، ولكن حرصاً على أموال الشعب الذي وكّلني بالحفاظ عليها أخاف أن تقول: «وأرسلناه إلى مئة ألف أو يزيدون»! فانظر أين تذهب أموالك!

كما يحكى عن السلطان العثماني عبدالعزيز، الذي حكم تركيا بين أعوام 1861 و1967، وكأنه لم يصدق وصول كرسي العرش له في أغنى دولة إسلامية تلك الفترة، فاستغلّ أموال الشعب في أكل البيض بشكل انتقامي. فقد تعوّد هذا السلطان على (ترويقة) ملوك صباحية طوال فترة حكمه، فصار يأكل كل صباح 60 بيضة مسلوقة فقط على الريق! فتخيّلوا ماذا حصل لمن استثمر المال العام في أكل البيض. لقد أصيب بالتخمة والغازات، حتى مات وهو يتناول آخر بيضة العام 1867!

وحتى لا يقال بأن أمثلتنا دائماً من بين أهل العرب والمسلمين؛ فهذا هو الإمبراطور الروماني فيتيليوس، له حكاية غريبة في المأكولات التي كان يتناولها من المال العام أيضاً، مع أنه لم يحكم بلده إلا لمدة ثمانية أشهر فقط. فقد كان الإمبراطور ينفق ما يقارب (375 ألف دولار) فقط يومياً على الطعام ليأكل بها أطعمة غريبة لا تخطر على خاطر بشر. من تلك الأطعمة: لسان البلبل، نخاعات الطاووس، كبد السمكة الببغائية، (أُطلق عليها هذا الاسم بسبب ألوانها وشكل فمها). كما كان يأكل «الجلكا»، وهو من أنواع أسماك المحيطات. وقد بلغ مجموع ما أنفقه هذا الإمبراطور الشره بغرابة أطعمته في ثمانية أشهر؛ ما يقارب 90 مليون دولار، ومع ذلك فقد جعل أمه تموت جوعاً ليحقق إحدى النبوءات القائلة إنه سيحكم مدة طويلة إذا ماتت أمه قبله. وعلى رغم أنه ذبح أمه جوعاً فلم يدم حكمه إلا أشهراً، فسبحان الله في حكمته التي لا يستوعبها إلا الراسخون في العلم.

والمثل الأخير هو من الغرب الأوروبي أيضاً، إنه المستشار النمساوي (فانزيل فون كونتز رتبورج) الذي حكم النمسا بين (1711-1794). وحكايته ليس في ولعه بالأطعمة أو الاستماع لمديح الشعراء، بل كان من نوع آخر حتى سمي بمجنون الملابس. فقد ضرب هذا الحاكم الرقم القياسي في تغيير الملابس بين الرجال، وكله من خزينة الدولة وأموال الشعب طبعاً. فقد كان يغيّر غياراً كاملاً كل 30 دقيقة، أي بمعدل 32 مرة كل يوم. وكان بعض الموالين له يردون بأن هذا افتراء على شخص المستشار، لأنه لم يكن يستبدل غياراته أثناء النوم الذي يستغرق جلالته طوال 8 ساعات في اليوم! وللعلم فقط، فقد كان الغيار يشمل أيضاً السلاسل وعلب النشوق (للعطس) والخواتم والمناديل. وكان البرنس فانزيل يعد ملك الأناقة في عصره وتكلفه ملابسه وحدها 40,000 دينار في السنة فقط بعملة هذا الزمان.

ولكن، لا يصح في هذا الزمان إلا قول أحكم الرجال وأعقلهم وأحلمهم بكلماته النورانية التي تبقى على فم الزمن ما حيينا: «عدل السلطان حياة الرعية وصلاحُ البريّة». وآخر القول: إن من مشى على الأرض متكبراً بما يلبس من أسمال الدنيا لصائرٌ إلى بطنها جيفة نتنة لا روح فيها.