وقف اثنان على شاطئ البحر يتجاذبان أطراف الحديث فلمح أحدهما جسماً أسود اللون فالتفت لصاحبه وقال: انظر لتلك العنزة في البحر، فقال الثاني: أي عنزة الله هداك إنها «لوهه» (طائر بحري لونه أسود)، واستهجن الأول ضعف بصر صاحبه وقال: إنها عنزة، ألا ترى قوائمها الأربع؟ فرد الثاني: أي قوائم أربع يا نظر عيوني... ألا ترى منقاره وذيله؟ وازداد تهكّم الأول على الثاني. فما كان من الثاني إلا أن رمى حجراً باتجاه الجسم الذي اختلفا عليه فطار. فقال الأول: لا تحاول معي، إنها عنزة ولو طارت!
هذا المثل البحريني يرد بصيغ شتى عند معظم العرب من المحيط إلى الخليج لأهميته، ويكون فيها الطائر تارةً غراباً وأخرى بطةً أو (لوهه) كما في البحرين، أو رابعاً طائراً بلا تحديد. وفي التفسير البحريني لقصة المَثل يقال «يُضرب هذا المَثل في حالة الإصرار على الرأي وعدم الاعتراف بالخطأ».
احتفظوا بهذا المَثل ومعناه رجاءً حتى آخر الحكاية، ثم اشكروا ربكم أيها البحرينيون الكرام لأنكم تعيشون أياماً لم يعشها من سبقكم رغم تعدد الحركات الوطنية المطالبة بالإصلاح الطبيعي كل عقدٍ تقريباً، وهي تتمحور في أهدافها حول حالة الثبات الذي يدور حول نفسه لينتج نفسه منذ مطلع القرن العشرين وحتى اليوم.
الشكر يأتي أولاً: لأنكم ترون كل يوم بروز كثير من مظاهر اللعب على الحبال الطائفية والتراجعات السياسية وضبابية المشاهد الدرامية علناً بين رفاق درب النضال بالأمس لا اليوم. فنحن لم نعش حركة الخمسينيات تحديداً، أو كنا صغاراً، حين برزت إلى السطح السياسي الخليجي عموماً والبحريني خصوصاً، وبفعل تأثيرات عربية ودولية؛ براعم وطنية قومية ويسارية سرعان ما تحولت أدبياتها إلى مبادئ ومناهج وأهداف مبرمجة، وإن كانت نظرية في معظمها، من أجل التغيير والإصلاح من الداخل، مع أن بعض تلك الحركات كانت تعمل من الخارج.
والشكر يأتي ثانياً: لأن ما تعيشونه اليوم كشف لكم، وهذا من إيجابيات الفتنة كما يقال، فرزاً واضحاً وبيّناً بين الوطنية الصابرة والمكافحة أمام المتراجعين عنها بحجّة الخوف من الطائفية تحت شعار «الوقوف على التل أسلم»، وبين المتصيّدين في الماء العَكِر، وليس العُكر، والمتزلفون والمنافقون على الفضائيات والأرصفة والناكثون، والمنسلخون من جلدتنا نفسها، والمتحولون من كل الأطياف 360 درجة دفعة واحدة. كل الخليط العجيب هذا من «فتافيت» تجدونه اليوم بالنكهة نفسها يُعرض أمامكم بالصوت والصورة، وهذا ما لم يتوافر لأجدادكم.
اشكروا ربكم أيها البحرينيون، لأنكم تعيشون اليوم لتشاهدوا الذي يحدث وتكونوا شهوداً عليه أيضاً. وفي هذه الشهادة معكم نطرح هذه التساؤلات: ما الذي حدث اليوم بعد طوال عشرة النضال الوطني من أجل التغيير بين أولئك الرفاق المعتمد عليهم في خوض الجولة الآنية؟ هل أضحت الأمور في بحبوحة والصدور منشرحة والآمال رست على الأرض والأحلام الخلوية بين رفاق الدرب في الغربة والوطن تحققت؟ ولهذا يحدث ما حدث من تحوّلٍ في الأفكار وتغيّرٍ بين قلوب الرفاق وسحق المبادئ والأفكار الأولى تراجعاً أو تخلياً كلياً بادعاء التكتيك المرحلي؟ ومن قال في أدبيات الوطنية، التي نعرفها ببساطتنا الشعبية، أن الاصطفاف الطائفي واللعب على وتره أو «الوقوف على التل» أو بجانب من وراء التل... بأنه تكتيكٌ مرحلي يخدم القضية الوطنية برمّتها؟
ثم أي قضية وطنية بالضبط كنتم تؤمنون بها وتمارسونها طوال تلك السنوات وقدمتم عشرات الضحايا والأسماء حتى عجزتم عن الاستيعاب واللحاق بوعي اللحظة الراهنة منها؟
عفواً، قبل الهجوم من أحد وكثرة القيل والقال، ما نطرحه هنا بلا مزايدات، ليست دروساً في الوطنية فلا أحد يحتاجها اليوم ولسنا نحن من ندّعي شرحها لأيٍّ كان. لكن الغريب أن بعض الرموز الوطنية التي تمثل تاريخاً عتيقاً في النضال ومعها تجمعاتها المعروفة؛ شاب موقفها ضبابية منذ انتشر الدخان في موقع التجمعات الليلية الأولى وانطلقت الغربان بأصواتها النشاز في أجواء ذلك الدخان. والأغرب أنه بعد كل ما حدث ورآه الملأ في العالم أجمع حيث سالت الدماء وتناثرت الأشلاء هنا وهناك؛ مازالت تلك الرموز ترفض أن يحاسبها أحدٌ على رأيها وموقفها، مدعيةً أن ذلك نوع من التشكيك في وطنيتها، وكأن بعض هؤلاء الرموز الوطنية تتبنى منطق السلطات العربية نفسه بترديد عبارة «لا نريد أن يحاسبنا أحد لأننا فوق المحاسبة»!
اطمئنوا أيها الأعزاء، فلن يعطيكم أحد دروساً في الوطنية لأنه لا وقت طويل لهذا ولا أنتم، في ظننا المتواضع، في حاجة لمثل هذه الدروس. لكن الغريب أن من شاهدناهم وعشنا بجانب كلماتهم ومواقفهم الرنانة والصلدة في فضاء سبعينيات الطلبة بين الكويت وبيروت وبغداد، ضاعت بوصلتهم فجأةً في فضاء الألفية الجديدة وربيعها العربي. وهم الذين كنا نتوقع بل والمفترض أن يمسكوا بهذه البوصلة ويوجّهوها بشكل وطني صحيح، وإن كان بالتعاون مع جمعيات وطنية حديثة العهد ولكنها صلبةٌ في مواقفها، لتحقيق المطالب نفسها التي قامت تلك الحركات في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات على أساسها. إذن منطق «عنزة ولو طارت» هو منطق الجامدين الذين لا يغيّر فكرهم واقعاً مؤلماً معاشاً يومياً أمامهم ويعرض على الفضاء، بل يشعرون أن أفكارهم ومواقفهم التي يتبنونها اليوم، وإن كانت غير صحيحة ولا نقول خاطئة، هي جزءٌ منهم فإن تنازلوا عن بعضها فكأنهم تنازلوا عن جزء من ذواتهم. وكأن الوطنية الحقيقية مرتبطة بالأنا والمصلحة الشخصية وليست مرتبطة بالوطن وحقوقه، وإن جاءت على حساب مصالح الفرد الضيّقة دنيوياً. لذا نجد هؤلاء، ومما يحزّ في النفس أنهم وطنيون ونحترمهم، يصرّون على الاعتقاد بصواب مواقفهم فيزدادون جموداً وتكلُّساً مع الزمن وتقلّ مرونتهم ليدخلوا في دائرة الثبات والتكلُّس الذي يدور حول نفسه لينتج نفسه منذ مطلع القرن العشرين وحتى اليوم، مع أنهم اكتسبوا صفة الوطنية، نضالاً، وبُنيت مبادئهم أساساً على معارضة أصحاب تلك الدائرة والسعي بالسبل السلمية لكسرها وتغيير الواقع بأمل المستقبل المشرق الذي يتطلع إليه الجميع ولسوف يستفيد منه الجميع.
نرجو، بقلوبٍ ملؤها التفاؤل الأخوي البحريني، أن يكون ما يشاهده هؤلاء الإخوة في البحر ليس «عنزاً» لأنه سيطير قريباً.
إقرأ أيضا لـ "محمد حميد السلمان"العدد 3566 - الإثنين 11 يونيو 2012م الموافق 21 رجب 1433هـ
أحسنت القول واصدقته
هناك مثل دارج اخر مألوف علي الواقع الذي ذكرته سيدي الكريم الا وهوا
اقول له تيس ايقول حلبه !!!