جاءت «الوشاية» على ذمّها بالإطلاق. فهي تلازم في أحيان كثيرة، عنوان الغدر، أو الطعن من الخلف، والكذب على الآخرين. وقد نعِتت بأقذر النعوت، حتى في زمن الجاهلية ذاته، كونها خلاف المروءة، وكمال الرجوليَّة والشهامة. وبعد أن جاء الإسلام، نهى عنها وجرَّم فاعليها، كما جاء في الأثر، حول وصف الأشرار، على أنهم: المشّاؤون بالنميمة، المفرّقون بين الأحبّة، الباغون للبراء العيب.

وقد جاءت الآية السادسة من سورة الحجرات تعميداً لذلك الأمر، فقال تعالى: «يا أَيُّها الذين آمنُوا إِن جاءكُمْ فاسقٌ بِنبأٍ فتبيَّنُوا أَن تُصِيبوا قَوماً بِجهالةٍ فتُصبِحُوا على ما فعلتم نادمين».

لقد انسحب ذلك الأمر (في ذم الوشاية واحتقار فاعلها) حتى على قواميس اللغة العربية. فقيل في «لسان العرب» لابن منظور في تعريف الوشاية: وَشَّاه أي نَمْنَمَه ونَقَشَه وحَسَّنه، ووَشى الكَذِبَ والحديثَ: رَقَمَه وصَوَّرَه. والنَّمَّامُ يَشي الكذبَ: يُؤَلِّفُه ويُلَوِّنه ويُزَيِّنه. والجوهري قال: وَشى كلامَه: أَي كذب. وفي حديث الإِفك: كان يَسْتَوْشِيه ويَجْمَعُه أَي يستخرج الحديث بالبحث عنه. وفي مقاييس اللغة، يقولون للذي يَكْذِب ويَنمُّ ويُزخرِفُ كلامَه: قد وَشَى، وهو واش. وهو تجانس واضح بين التعريفين اللغوي والاصطلاحي، يُبيَّن حَدَّ الإجماع المحكم، والبداهة في النظر إليها بدونيَّة.

من أكثر الأمور غرابةً في موضوع الوشاية، هو تحققها في معادلة، تحتوي على أشرِّ الأشياء وأخيرها في آن. بمعنى، أنها تحدث كونها أمراً مذموماً، في التصدِّي أو هدم ما هو ناجز من عمل قيِّم ومحمود. لذا، فهي عادة ما تصيب الأشخاص الناجحين في أعمالهم، أو علومهم، حيث يجتمع عليهم الحسَّاد، ومرضى النفوس، الذين يستفزهم، ويقضُّ مضاجعهم، أيُّ نجاح يحققه الآخرون. كذلك، تلاحق الوشاية القريبين من السلاطين وأهل الحكم؛ فالحاكم يصبح مداراً لصراعات تحتية، وغير مرئية، حيث يتقاتل عليه أهل المصالح والنفوذ والمال، فيعمل هذا على إزاحة ذاك، ويجتمع أولئك على إبعاد هؤلاء عن مجلس الحكم، لكي يستأثروا به وبمنافعه دون غيرهم.

وهناك وشايات تستعر أثناء الصراعات الدينية والقومية والسياسية، حيث تموت النفوس، وينزاح الضمير، وتتفسَّخ الأخلاق، أمام صراعات الغريزة، وشهوة الانتقام، من دون الاكتراث بأيِّ لُحمَة أو وصْلٍ واعتبار، سواء في قرابة الدم، أو حتى في العلاقات الوشيجة، بين أنساب الروح، حيث الأخ نسيب الجسم، والصديق نسيب الروح كما جاء في الأثر. وهنا، تتخطى تلك الغريزة الشريرة، كل هذه البنى الصلبة، لتستقر وراء عين لا ترى، وقلب لا يتحرك، وحواس لا تتورَّع عن فعل أيَّ شيء تريد أن تفعله تلك النفس بحق ضحاياها. وهي أدنى أنواع الوشايات وأوضعها على الإطلاق.

لقد بيَّنت لنا أحداث التاريخ، أن الوشاية قد جاءت على منازل ودرجات. فهناك وشاية أدَّت إلى هلاك الرُّوح، كما في حالة خصوم الشاعر بشار بن برد حين وشاه أعداؤه إلى المهدي، فأمر بإحضاره وضربه بالسِّياط حتى مات. وبعضها قد يؤدي إلى العذاب والبلاء، كما حدث لـ يوحنا السمنودى عندما وشِيَ به عند والي مصر، فقبِضَ عليه، فأوقِف على إناء نحاسي مملوء بالجمر الملتهب، وغرِّم مئة ألف دينار. وبعضها قد يؤدي إلى العزل من المنصب، كما في وشاية بعض من أهل الكتاب للحجاج بشأن يزيد بن المهلب حاكم خراسان، بعبارة واحدة: «يلي الأمر بعدك رجل يقال له يزيد»، فقال‏:‏ ليس إلاَّ ابن المهلب، فعزله وولى المفضل بن المهلب مكانه.

وهناك وشايات قد تفضي إلى النفي من الأوطان والتغرب، كما في حالة جمال الدين الأفغاني، عندما وشى به بعض الأشخاص عند ناصر الدين شاه، على أنه من الماسونية، والبابيّة، فألقى القبض عليه وقام بنفيه إلى العراق، ولم يعد حتى مات بالسرطان في مهجره. وقد حدثنا التاريخ أيضاً، أن وشاية السُّوء، كادت أن تعصف بقصر الخليفة عبدالملك بن مروان، في أمر خلع أخيه عبدالعزيز، عندما دخل عليه بن زنباع فأسَرَّ في أذنه يشجعه على ذلك الخلع، بقوله: لو خلعته ما انتطح فيه عنزان، لولا نصح قبيصة بن ذؤيب لعبدالملك بقوله: لا تفعل، فإنك تبعث بهذا على نفسك العار، ولعل الموت يأتيه فتستريح منه‏، فالرأي كله في الأناة والعجلة فيها ما فيها.

هنا، قد لا يكون الكلام نافعاً عند مَنْ يقومون بالوشاية، لأن الأصل أنهم مرضى نفوس، يملأهم الحقد الأعمى عن رؤية أيّ شيء غير ما هم فيه، لكن الحديث الأهم، عادة ما يكون صالحاً أن يُوجَّه لأصحاب النفوذ والمركز والرئاسة، الذين تصلهم الأقوال إلى حيث هم. صحيح، أنهم وبحكم مكانتهم وشأوهم يكونون بُعداء عن معترك التعاملات اليومية بين البشر، لكن ما بحوزتهم من أدوات، يجعلهم قادرين على الوصول إلى حقيقة الأشياء، عبر الاعتماد على مجموعة من الوسائل المختلفة، وغير المتصلة في مصالحها، لكي يتحصَّلوا على أفضل النتائج، وأصفاها وأيقنها.

كم من نوائب حصلت جرَّاء التصديق المطلق للواشين، وكم من ظلامات وقعت من دون أن يكون لها أصلٌ صحيح، وخصوصاً إذا كان الأمر متعلقاً بأشياء كبيرة، ونتائجها أكبر فيما لو اتخِذ قرارٌ لا سند لدفوعه ولا أصل. فآلة الرئاسة سِعة الصَّدر، وهذه السِّعَة لا تعني فقط، تحمُّل سلوك العامة من الناس، وإنما أيضاً التثبت من كمِّ الأقوال الواردة. فبحكم المكانة وعلو المنصب، عادةً ما تكون المعلومات كثيرة، وهي تحتاج لا إلى مزيد من التصديق، مهما كان ناقلها، وإنّما إلى مزيدٍ من الرويَّة، التي بها ندفع السقيم منها، ونقدم الصحيح، وإلاَّ أصبح الأمر قائماً على غير العقل.