العدد 3565 - الأحد 10 يونيو 2012م الموافق 20 رجب 1433هـ

غسان التويني... في ومضات من الذاكرة

مروة كريدية comments [at] alwasatnews.com

باحثة لبنانية في الانثروبلوجيا

سيبقى حيّاً وإن رحل

دوماً كما كان عابراً للتخوم

لوطن سيد حرٍّ مستقلٍّ نذر حياته

صحافيّاً رسولاً وسيّاسياً أديباً

تكتنز ذاكرته تاريخ حضارات

فكان باحثاً موسوعيّاً وإعلاميّاً مناوراً

واستحق أن يكون في قائمة الخالدين

على عرش الصحافة تربع نصف قرن شاهداً على آمال عريضة لشعب أنهكه التشرذم وآلام حرب دفنت في قلب أبنائه، فكان عرّاب المصالحات والحوارات وصاحب القيم النبيلة حيث لم يغير عنف السياسة من وداعة سريرته شيئاً.

عاد إلى البياض حيث السلام الدائم، لتقفز إلى ذاكرتي ومضات خاطفة للقاءات عابرة نادرة حفرت في مخيلتي صورة استثنائية لرجل اكتنز دهراً وخبايا حرب وآلام أمة.

لم أتجاوز السابعة عشرة في مقتبل حياتي الجامعية، حيث كانت كلمات «الشخصيات البارزة» في المناسبات الرسمية الجامعية عبئاً ثقيلاً تملها الأنفس؛ كان لغسان التويني كلمة في حفل أكاديمي، وببساطة عجيبة كان يسبر بحنكة خبير ملامح الطلاب، ويخاطبهم بما يشبه الرجاء الذي يعول على شريحة من صنّاع المستقبل وتوجه إلينا بالقول: يا طلاب السنة الأولى بالذات «الأهم من العلوم هو الإنسان القادر على معرفة الطبيعة... واعلموا أنه أياً تكن الشهادات التي تطمحون إليها، فلن تصنفوا في مواقع أهل المعرفة ما لم تستوعبوا تاريخ الإنسان».

كلمات علقت في ذاكرتي لأنها «لم تعجبني وقتها» كوني أحب الإنسان ولا أحب تاريخه، حيث كان التاريخ بالنسبة لي حينها مجرد أحداثٍ دامية مزوّرة يجب عليّ استظهار تفاصيلها المقيتة. غير أن تفاعله الحيوي أدخل الطلاب في الجانب الاجتماعي للحياة الجامعية ليقول: «سأتذكر الوجوه التي كانت كلها شغفاً سواء بين المعلمين وبين طلاب قلّت حواراتنا معهم إلا بنظرات الود والتشجيع».

وبعد تلك المناسبة بأعوام ثلاث، انشغلت كثير من الجامعات اللبنانية بتفعيل الحوار بين الطلاب لإزالة رواسب الحرب الأهلية من نفوس عانت ويلات التشظيات الطائفية المريرة، وكنت قد انخرطتُ في ورشة عمل حول حوار الشباب الإسلامي المسيحي في جامعة القديس يوسف، وكان التويني يشجع الشباب على الاختلاط بالآخر ومعايشة يومياته بكل تفاصيلها كي يختبر ثقافة الآخر ويعشقه بعيداً عن سفسطة اللاهوت المقارن والجدليات الفقهية العقيمة التي كانت تستهوينا أحياناً؛ وفي خطبة بمناسبة تدشين «مركز الدراسات المسيحية الإسلامية» بجامعة البلمند أشار لنا إلى «التلاقي الحيّ المستمر لواقع الحياة المشتركة وتحدياتها اليومية» أهم من «اللقاءات الأكاديمية أياً تكن رفعتها» وأن «الحوار هو معرفة الآخر وعشقه، وبالنسبة إلينا، قضية موت وحياة... وليس مجرد وليدة لاهوت نظري وعلم فقهي».

لقد رحل التويني عن عالم تسارعت أحداثه وفي أوج المخاضات الثورية التي تشهدها منطقة لم تهدأ يوماً؛ وكأن كتابه «حوار مع الاستبداد» لمقالاته خلال العام 2003 كان بمثابة إرهاصٍ مبكر لما طال الأنظمة العربية بعد سبعة أعوام عندما كتب في السابع من أبريل/ نيسان من ذاك العام: «فلا يظنن حاكم أن في وسعه المحافظة على رأسه «عندما تغيّر الدول» إلا إذا ركب هو مركب التغيير وآمن بالجهاد من أجل حياة أمته بدل التنازل عن الحياة لواحد من مصيرين متحالفين في الجوهر: الاستعمار أو الإرهاب... أو لكليهما معاً وتلك تكون الطامة الكبرى».

كما أشار أيضاً في خريف العام نفسه يحذر قادة الدول العربية بأنه «إن لم نسلّم الأمم المتحدة مفاتيح «السجن العربي الكبير» سجونا سجونا نشرع أبوابها بكل دهاليزها في كل عواصمنا فإننا سنتحول إلى مغانم وسبايا للدول العظمى... وأسلاباً لاقتصاداتها الطامعة كلها بنا... بينما تختنق الشعوب في دخان «ثقافة الموت» وهي ترقص جائعة على القبور».

وفي أواخر العام 2008 التقيته ضمن لقاء خص به أسرة تحرير «إيلاف» حيث أراد ناشر «إيلاف» عثمان العمير وقتها تكريمه بملف خاص بمناسبة عيد ميلاده كأحد أبرز الصحافيين العرب في القرنين العشرين والحادي والعشرين؛ فكانت دردشات مطولة مع المشاركين؛ حيث اعتبر أن قمة المأزق العربي يتلخص في أنّ تركيا وإيران تتصرفان نيابة عن العرب وتمسكان بزمام الوصاية على التاريخ العربي المقبل وأن للطائفة الشيعية في لبنان تراثاً روحياً عميقاً ولها جذور صوفيّة تمتد إلى الإمام علي بن أبي طالب في «نهج البلاغة» وعليها التحرر من الخط الفارسي.

وتمر السنوات مسرعة وتخطفنا الأحداث، وفي آخر مرة التقيته لم أشأ أن أحدثه بالصحافة ولا بالسياسية كنت أبحث منه عن حكمة إنسان وقلب جدٍّ أعياه المرض وآلامه رحيل ابنه، فسألته عن علاقته بحفيدتيه التوأم اللتين ولدتا قبل اغتيال والدهما جبران بأشهر، فقال لي: «حاجتنا لطفولتهما أكبر من حاجتهما لنا... أتمنى لكل بنات جبران المسرة... فجبران باقٍ بهنّ».

عاد غسان إلى البياض

سأتذكر وجه

ولفافة بين إصبعيه ترتجف

وكأس نبيذ كالحبر ينتشي

فوق ورق صحيفة يفتتحها

عند إبلاج كل نهار!

إقرأ أيضا لـ "مروة كريدية"

العدد 3565 - الأحد 10 يونيو 2012م الموافق 20 رجب 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً