يكتب الشاعر والمسرحي السوري الراحل، محمد الماغوط في «شرق عدَن... غرب الله»: «اليوم الذي تنقطع فيه الكهرباء والماء في بيتي ويتعطّل هاتفي وتتحطّم نظارتي وأفقد وظيفتي ويحاصرني الدائنون من كل جانب وأُستدعى إلى المخابرات بثياب النوم لا يمكنني أن أسمّيه يوماً فضيلاً ولو كان يوم جمعة»!
واليوم الذي يشبه ما قبله في امتهان كرامة الإنسان وذبحها كل لحظة في نقطة تفتيش عن النوايا وفرصة للمغانم والسلب واقتحام البيوت بعد الثانية فجراً بهمجية بالغة وانعدام روح وأخلاق وقيم يؤكد لك أنك لست في أوطان تتغنى بالمحبة والسلام والأمان. إنها معسكرات إذلال ومختبر إهانات على أقل تقدير.
حين تصحو على رعب أطفالك واختناقهم شبه اليومي من «الغاز المسيّل للأرواح»، لا يمكن أن تثق أو تتيقن أو تصحو على وطن بقدر ثقتك وتيقنك من صحوك على الممارسة التي ألِفتَ ولا ترى أفقاً لنهايتها «اهتزّت وربَتْ» تلك الممارسة! إنها حرب شبة أبديّة من نوع آخر! حرب ضد من؟ سؤال يتمّ تعويمه وتغييب الردّ عليه كما الإجابات على التزامات واستحقاقات في حفل إفطار بأحد فنادق الخمس نجوم؛ إذ العبث في امتداد اللهو وشهوته!
سئمنا الكذب المستفحل والبيانات المتطاولة والاعتذارات الصفراء والكاميرات الموجّهة لتضرّر مركبة قمع فيما الكاميرات نفسها تصاب بالعمى ساعة فرم ونخْل أجساد بشر لا ذنب لهم سوى أنهم يريدون أن يحيوا بوصْفة الله وإرادته، لا بوصْفة المزاج واختراع المخططات والاستهدافات التي لا وجود لها إلا في رؤوس ونفوس أصحابها.
يحدّثونك عن حرية التعبير بحسب التقسيم الفئوي والطائفي الذي تم إعداده منذ زمن. التقسيم الذي جرّوا البلاد إليه. حرية تعبير في شتم البشر في أعراضهم ودينهم وكرامتهم وإنسانيتهم، عبر أقلام «بطاقات السمسم» مدفوعة الأجر التي أثرَتْ وأتخمت وأمعنت في فسادها على مرأى من دول تلوّح وتلعلع أجهزة إعلامها ببيانات تسويق تلك الحرية خارج الحدود بكل ما أوتيت من مواهب الدعاية والإعلان! بمؤازرة أقلام تفحّ جهلاً وحقداً ومرضاً وأمية ومتوغلة في التمصلح مما يحدث.
يحدّثونك عن حرية التعبير هذه المرة أيضاً ضمن مساحة المنبر الديني؛ حين يطلع أمّي حمَلتْه الصدْفة إلى مؤسسة تشريعية فيعمد إلى وصف أكثر من نصف مكوّن المجتمع بالكلاب والخنازير وأبناء المتعة وأبناء اليهود، من دون أن تحرك مؤسسة القانون - التي من المفترض بها أن تصون الحقوق وتسهر على قيامها - أي إجراء ومساءلة.
وبمناسبة ذكر القانون، يحدّثونك عنه، ذلك الذي تراه بعينين في مكان وبعين واحدة في مكان آخر. ينتخب ما يريد إدانته بحسب الطلب وبحسب الحس الطائفي وبحسب الاستهداف والرصد الموجّه، وما عداه ممن لا يراهم القانون بعينه الواحدة هم عرضة للاستباحة والإمعان في الاستهداف والتعامل مع أموالهم وأعراضهم باعتبارها غنائم حرب. لابد من غريم مصطنع يتم التعامل معه باعتباره ابن صدفة وابن عدم!
يحدّثونك عن المساواة فلا ترى إلا تمييزاً وتفريقاً وتقسيماً وتفتيتاً في توجّه أطل برأسه قبل سنوات يتم تلمّس وجني نتائجه على الأرض وفي تصاعد مستمر، طال كل مفصل من مفاصل اعتقاد ووجود مكوّن يراد له أن يكون خارج المعادلة. معادلة الوجود المشترك.
نحن في أوطان هي مناجم من السخرية أمام العالم كلما ادّعت احترام حقوق الإنسان وهي تمعن في قمع ومصادرة تلك الحقوق. أوطان موهبتها البارزة والصارخة والفاقعة الحطّ من تلك الحقوق مع عدم نسيان التلويح أو الاستشهاد باتفاقات دولية تنضم إليها توقيعاً من دون أن يكون الالتزام بها هدفاً. هكذا يتم فهم الأمر بل رؤيته من خلال الممارسة على الأرض.
آلة الإلغاء لا تترك لك فرصة التهكّم والسخرية. الأداء على الأرض درسٌ صريحٌ وبيّنٌ للسخرية من الإنسان وقيمته حين يتم التعامل معه باعتباره أداة تهديد لمن اعتادوا وأدمنوا ممارسات ويراد لما تُمارس ضدَّهم أن يكونوا ممتنين لذلك!
يجد الواحد منا في التهكّم ضمن «أوطان» وأضعها بين قوسين؛ لأنها ليست كذلك، حين يكون إنجازها الأول الحط من كرامة الإنسان والإمعان في إهانته، فرصة لأخذ حصته من رفاهية نادرة لن تتاح له في تقلّب الزمن والمزاج وهيمنة آلات الفرز والنوايا. أنت في «أوطان» تجد فرصتها في التعتيم على الحقوق والقفز عليها بمخاتلات لجان، من المفترض أن تعيد الاعتبار لمن تم التعامل معهم خارج حدود القانون؛ فيما النتائج على الأرض تعيدك إلى «الكوميديا» ما بعد السوداء.
ثم لا ينسون الحديث عن كرم مفتوح على اللجان وما أدراك ما اللجان في مثل هذه الأوطان. إنها مقبرة باحتفالات وضجيج وإعلام يردح من نوع آخر. إنها الطريقة الأمثل لقبر ومواراة كل حقوق وتجاوز. إنها مهدّئ سرعان ما ينكشف مفعوله وغش جدواه.
إنه تعاط يُرجعنا إلى أحد نصوص الماغوط الذي بدأت به هذه الكتابة:
«ساعات نومي بعدد كوابيسي
وكوابيسي بعدد رسائلي واتساع بلادي
وبلادي باتساع أرصفتي ودفاتري».
والتعريج على واحد ممن سخروا من اضطراب حال العالم بعلاقاته ومزاجيته التي أسست لمهيمنين على مصائره، تكاد تفي بجانب من تفاهة حال العالم.
سخر برنارد شو من استعباد الإنجليز للتقاليد يقول: «لن يكون الإنجليز أمّة عبيد، إنهم أحرار في أن يصنعوا ما تسمح لهم به الحكومة والرأي العام».
كلما أفرطت القوّة وظنّت أنها بممارساتها تلك تحفظ وجود طرف على حساب آخر، تكون بذلك قد غفلت عن شيء: في كل قوة آفة هشاشة؛ وخصوصاً إذا ما كانت قوّة لا تقيم عدلاً ولا ترسّخ قيماً في صالح الإنسان.
أختم بكلام قد يبدو عابراً ولكنه في قيمة المعنى: الضعف أن تبطش لتحيا!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3565 - الأحد 10 يونيو 2012م الموافق 20 رجب 1433هـ
ما هو الحل ؟
هذا واقع حال الحياة اليومية في البحرين و السؤال المطروح ما هو الحل ؟
أي والله
الضعف أن تبطش لتحيا!
والعاقبة للمتقين
الأنكى والادهى اذا صدر الكذب ممن يدعون التدين فتلك والله الطامة
تابعت امس كما تابع الكثيرون برنامجا يتعلق بالبحرين وهذا طبيعي ان نهتم لشؤون بلدنا لكن ما يدهشني هو ان الكذب حين يصدر من رجال يتشحون بعباءة الدين فأقول واويلاه الكذب بحد ذاته ممقوت ومخل بالمروءة والرجولة ولكنه اذا صدر من شخص يدعي انه له تمثيل ديني فتلك والله الطامة الكبرى.
وآخر ما ختم به هو قلب المقياس حين يتكلم باسم
70% من شعب البحرين! من اين جاء له التأييد من هذه ال70% وأي احصائية هذه التي اعتمدها.
التكلم بلغة الارقام لا يصلح الكذب امامها فهي بالغة الفضح
عندما يكون هنالك اختصار للمسافات واختزال للحالة...عندما تتدلى الأحرف يتقاطر منها الحبر..حبر الحقيقة..ذلك هو ما خطته كلماتك. شكرا استاذ على توصيفك الرائع.
واضح!!
إنما يحتاج إلى الظلم الضعيف