مضى 19 يوماً على الحرب الأميركية - الإسرائيلية على لبنان (دولة ومقاومة) وحتى الآن لم تتوضح معالم الحل السياسي بسبب ذاك «التوازن السلبي» الذي ظهر في ميادين القتال. فالتوازن السلبي العسكري الذي نجح حزب الله في رسم خطوطه يعني استراتيجياً أن «إسرائيل» عاجزة عن سحقه أو إخراجه من المعادلة كذلك يعني أن الحزب غير قادر على انزال هزيمة كبيرة بالدولة العبرية.

هذا التوازن الميداني فتح الباب أمام التفاوض وشجع القوى الدولية والإقليمية والمحلية على التدخل السياسي بهدف التوصل إلى حل دبلوماسي. والدبلوماسية لا تعني نهاية للحرب بل هي نهاية جولة عسكرية تمهيداً للتوافق على صيغة حل. وفي حال فشلت المفاوضات في التوصل إلى تفاهم نهائي (أو مؤقت) فإن احتمال تجدد القتال يصبح وارداً.

لبنان الآن (دولة ومقاومة) أمام استحقاقات خطيرة للغاية والنجاح في المعركة الدبلوماسية قد يوفر فرصة للدولة بالنهوض مجدداً (دولة محروقة ومشوهة) بينما الفشل يعني فتح باب أمام رياح «التدويل» أو «التمزيق» أو العودة إلى الصيغة الثنائية التي تأسست موضوعياً في العام 1976 على الساحة اللبنانية.

لبنان إذاً في سباق مع الوقت، فهو يضغط من أجل الاسراع في وقف إطلاق النار أو على الأقل التوصل إلى «هدنة إنسانية» مؤقتة تعطي فرصة لاحصاء الخسائر وتأمين الامدادات والاسعافات للقرى المحاصرة في الجنوب.

«إسرائيل» ترفض وقف إطلاق النار حتى أنها تماطل في القبول بـ «هدنة» مؤقتة بذريعة انها لا تريد إعطاء انطباع بأن حزب الله صمد وانتصر في معاركه الميدانية. فالدولة العبرية الآن في صدد إعادة النظر في حساباتها العسكرية واضطرت بعد مكابرة أن تستدعي جزءاً من احتياطيها وتحتاج إلى فرصة زمنية تتراوح بين أسبوع أو عشرة أيام لإعادة تأهيل وتدريب أربع فرق عسكرية إضافية لزجها في ساحة المعركة.

أمام لبنان إذاً مدة لا تزيد على الأيام العشرة للاستفادة من ذاك «التوازن السلبي» الذي حققه حزب الله ميدانياً. وهذه المدة تعتبر فرصة لما تبقى من اشلاء دولة للتحرك عربياً وأوروبياً ودولياً لانقاذ ما يمكن إنقاذه من خلال اصدار مشروع قرار عن مجلس الأمن يمنع إطلاق النار ويفسح المجال الدبلوماسي لإنتاج صيغة سياسية واضحة المعالم تؤسس لنوع من الهدنة المشرفة والمعقولة.

حتى الآن لم ينجح لبنان في تشكيل غطاء دولي وعربي وإقليمي لحماية أرضه وسكانه من الاستباحة وسياسة الأرض المحروقة التي باشرتها «إسرائيل» ضد القرى الأمامية ويرجح أن تستكملها تمهيداً لهجوم أرضي تخطط لشنه بعد أسبوع أو أكثر.

منع «إسرائيل» من تنفيذ هجومها وتحقيق أهدافها السياسية يتطلب إسراع الأمم المتحدة في التوصل إلى قرار دولي يضبط ايقاع الحرب ويكبح احتمال انفلاشها أو تجددها. وهذا الأمر لم تنجح فيه «دولة» لبنان حتى الآن.

مشكلة لبنان تتلخص في هذه اللحظات الصعبة بالموقف الأميركي. فالولايات المتحدة استغلت قانونياً «الشرعية الدولية» لتضرب ضربتها السياسية الموجعة. فهي تستخدم مسألة «من بدأ الحرب» لتمرير مشروع تقويضي كبير (مخاض الشرق الأوسط الجديد كما وصفته كوندليزا رايس) ولو أدى الأمر إلى تمزيق لبنان إلى اشلاء طائفية ومناطقية.

«من بدأ الحرب» تعتبر نقطة حيوية في الشرعية الدولية، وأميركا تعتمد عليها وتستغلها لإعادة تشكيل مظلة واقية لاستراتيجيتها التي تربط نظرياً بين حلقات السلسلة الأربع: غزة، لبنان، سورية وإيران.

وأميركا تحاول الاستفادة من هذه الثغرة واستغلالها إلى حدها الأقصى لرسم خطوط المواجهة المحتملة في المنطقة. وهي في هذا الصدد وجهت ضربة سياسية قاسية للنفوذ الفرنسي (والمحور السعودي المصري) في لبنان من خلال تحطيم البنى التحتية للدولة. فإضعاف الدولة وتكسيرها يخدم المشروع الأميركي ويعطل دولياً على فرنسا امكان العودة إلى منطقة تعتبر تقليدياً من دوائرها. وأميركا أيضاً وجهت رسالة سياسية عنيفة للثنائي السوري - الإيراني في لبنان من خلال تحطيم البنى السكانية للمقاومة. فاضعاف المقاومة يخيف سورية ويجعلها تفكر قبل الاقدام على مغامرة عسكرية. والاضعاف أيضاً يعطي إشارة لدمشق بأن واشنطن جاهزة للتفاوض معها بشروطها وهي تتلخص في فك ارتباطها بحزب الله وإيران.

خطة واشنطن في المدى القريب هي تخويف سورية وتهديدها بتوسيع دائرة الحرب وعزل الحلقة الرابعة (إيران) عن عمقها اللبناني/ الفلسطيني للتفرغ إلى مواجهة سياسية كبرى مع طهران يرجح أن تبدأ في نهاية أغسطس/ آب المقبل.

هناك إذاً فترة شهر (أكثر أو أقل) أمام الولايات المتحدة لتطويع «الدولة» اللبنانية وارغامها على القبول بشروط قاسية. كذلك أمام «إسرائيل» فترة شهر تقريباً تستطيع خلالها الاستفادة من قصة «خطف الجنديين» لتحقيق بعض الأهداف المتصلة بالجنوب أو تدويله أو ربما إعادة ذاك التفاهم مع دمشق، الذي يؤسس لتسوية قلقة تعطي فرصة لإعادة إنتاج استقرار ثنائي على الساحة اللبنانية.

من الآن وحتى نهاية أغسطس المقبل ستعتمد الولايات المتحدة سياسة المماطلة وشراء الوقت وقراءة الحلول المطروحة من فرنسا ولبنان والاتحاد الأوروبي و«إسرائيل» لاستخراج صيغة تضبط الوضع لمصلحتها وتضمن أمن حليفها الاستراتيجي في المنطقة. وخلال هذا الشهر يتوقع صدور قرار غير واضح لوقف القتال يفتح الطريق لدخول قوات دولية إلى الجنوب. ومهمة هذه القوات، في حال صدر القرار بشأنها، الانتشار على الحدود الدولية في داخل الأراضي اللبنانية ثم تتقدم وحدات من الجيش للفصل بين «القوات المتعددة الجنسية» وقوات حزب الله.

انسحاب حزب الله إلى الداخل اللبناني تحت سقف التدويل وبهدف تنفيذ القرار 1559 يعني عملياً نقل المشكلة (أو المواجهة) من الحدود الفاصلة مع «إسرائيل» إلى الساحة المحلية التي تحتضن الطوائف والمذاهب المتنوعة في عقائدها ومشاربها ومصادرها وسياستها.

ولهذا السبب المخيف سارع حزب الله الذي فوض حكومة فؤاد السنيورة إدارة الملف مع الأمم المتحدة إلى رفض فكرة التدويل ونشر قوات أجنبية على الحدود حتى لا تعطى «إسرائيل» مكاسب سياسية ويرهق لبنان بشرور فتنة يحتمل أن يستدرج إليها الكثير من أصحاب المشروعات الصغيرة والتافهة.

احتمال حصول هذا التوزيع الميداني للقوى المحلية في حال نجحت أميركا في سياسة التدويل، يشكل نقطة توتر لا تستطيع دولة مقوضة ومشلولة أن تسيطر عليها أو تحتوي عناصرها المتفجرة. ومثل هذا السيناريو الذي تخطط له «إسرائيل» بدعم من أميركا يفتح الباب أمام احتمال تجديد الوكالة الإقليمية للمساعدة في ضبط الوضع الأمني ومنع انفلاته السياسي.

هذا السيناريو الذي تشتغل عليه تل أبيب وواشنطن سراً وعلناً يمكن قراءة عناوينه الكبيرة من خلال التركيز على مسألة نشر قوات دولية على الحدود وابعاد حزب الله إلى ما بعد خطوط الليطاني تمهيداً لتنفيذ ما تبقى من فقرات القرار 1559.

السؤال: من ينفذ تلك الفقرات، القوات الدولية أم «الدولة» اللبنانية المسكينة أم قوة إقليمية أخرى يمكن الاعتماد عليها في حال مغادرة تحالفها مع إيران والدخول في مخاض/ تسوية «الشرق الأوسط الجديد»؟

القوات الدولية (المتعددة الجنسية) ستقتصر مهمتها كما يبدو على حماية حدود «إسرائيل» وأمنها وابعاد صواريخ حزب الله وهي لا تملك القدرات والصلاحيات لتنفيذ هذه المهمة. كذلك الجيش لا يملك المواصفات والامكانات التي تسمح له القيام بمثل هذه الغاية المرفوضة سياسياً بحكم طبيعة الكيان اللبناني الطائفية. تبقى القوة الإقليمية هي القادرة، لكن عليها قبل تكليفها بهذه المهمة الموافقة بالدبلوماسية أو الاكراه شرط فك الارتباط مع إيران والدخول في تسوية مؤقتة وقلقة تعيد إنتاج صيغة معدلة عن تفاهم 1976.

هذا السيناريو الأميركي - الإسرائيلي الخطير يعتمد نجاحه حصول مجموعة فرضيات غير مؤكدة وثابتة. فالفرضيات دائماً تستند إلى مبدأ القبول أو الرفض وهي تحتاج إلى وقت لترتسم ملامح صورتها على الأرض من خلال وقائع غير ظاهرة حتى الآن.

الملامح حتى اللحظة غير واضحة بينما الوقت لا ينتظر أكثر من شهر لأن أميركا ستكون آنذاك مشغولة بتفكيك أو عزل الحلقة الرابعة: إيران