لا أعرف سبباً لانكسار الفرحة وتبعثر الرجاء وتهالك الأمل بمجرد رسوها عند شواطئ مملكتنا المعطاءة وملامسة حواف مدنها وبلداتها، آتية من بعيد في شكل موجات تتراقص نشوى، محملة بالبشائر، مكتنزة بالمفاجآت، لتتلقفها أياد أدمنت العربدة الطائفية وغرقت في عميق نرجسيتها، ولم تتردد قط عن الإفصاح بما يمتلئ به صدرها من غل وكراهية تجاه الآخر، أي آخر، حتى وان كان ذلك الآخر مصدر عزة وكرامة. قليلة هي لحظات الفرح في فضاءاتنا العربية، على عكس ما تأصل في قاعنا الاجتماعي، وما تورم في سلوكنا في السياق إياه من القهر والاستبداد، وما تم التعبير عنه في شكل هبات شعبية لقيت كل ما حكى التاريخ به وما سوف يحكيه من قسوة تهاوت فيها أرواح البشر لتعانق أمانيها في لحودها!
فحدث، كذلك الذي تدور فصوله البطولية في لبنان وما يتعرض له من عدوان موغل في وحشيته، ولا يعير اهتماما بإنسانية الإنسان إذ المشاعر تكلست وتيبست وأظهرت للعالم تساو في قيمة البشر بقيمة الحجر. وبصرف النظر عن الخوض في متاهات مسبباته، فلست هنا بإزاء إعطاء تحليل في الاستراتيجيا لأن لذلك متخصصيه، ولا أنا في وارد تقدير صحة اختيار الزمان والمكان للحرب من عدمه الذي أقدمت عليه المقاومة الإسلامية في لبنان، وإن كنت أقف مع آخرين غيري مع الرأي القائل بأن قرارا بهذا الحجم لا ينبغي أن يصدر إلا من أعلى سلطات في الدولة لا من حزب، فإنه، الحادث، يقدم لنا دروسا في الوطنية والتضحية والإيثار. فعلى رغم أن هناك تصادماً في وجهات النظر بين القوى الوطنية كافة، إلا أنها استجمعت قواها لتكون سنداً مقاوماً أسقط وإلى الأبد خرافة التفوق الإسرائيلي، ونزلت بكبريائه إلى حيث يتساوى البشر في الكيان ويختلفون في القدرات. إذ إنها، أي القدرات، حاصل تفاعلات الإنسان مع بيئته، إذ إن لبنان تميز عن باقي الدول العربية ببيئته الديمقراطية الرائدة في البلدان العربية استطاعت المقاومة الإسلامية إظهار قدرات المقاتل العربي لتبدو أنها ليست أقل كفاءة من الإسرائيلي إن لم نقل تفوقت عليه بالقياس إلى ما تمتلكه القوات الإسرائيلية من تكنولوجية عسكرية متقدمة، وأسقطت زيف الشعارات، وعرات مقولات مكثت طويلاً بفعل الوهم الذي أحسنت صنعا في تسويقه وسائل إعلام الأنظمة التي كانت تمارس اللعب على مشاعر مواطنيها.
الجدل بشأن توقيت الحرب وزمانها وصاحب قرارها سيستمر وترتفع حدته بالقدر الذي سوف تسفر عنه الحرب من نتائج، التي هي، من معطيات يومياتها الحياة على شاشات التلفزة، سجالاً عجز عن الإمساك بقواعد لعبته أكثر الجيوش العربية تنظيما. وتجدر الإشارة إلى أن كل الحروب التي دخلها العرب، باستثناء حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 التي اتضح فيما بعد بأن السياسة أضاعت بيسراها ما كسبته الحرب بيمناها، واكتفت بتجيير نتائجها الظاهرة التي تلهب كفوف الجماهير هتافا وراء صاحب الانتصار لخدمة الحزب الوطني الحاكم وتلميع صورة الرئيس المصري السابق أنور السادات ليقوم بمبادرات انفرادية، كانت، باستثناء حرب أكتوبر، فضلاً عن نتائجها الكارثية على كل المستويات، تؤسس لغرس بذرة الانهزامية في أذهاننا عن القدرات الخرافية للجيش الإسرائيلي تبريرا للعجز في تحقيق انتصار، وتحوطاً مستقبلياً عن أن أحدا يطالب بمحاربة «إسرائيل» لتحرير ما تحتله منذ العام 1967 إذا ما عجزت عن تحقيقه الوسائل السلمية التي ينادي بها المجتمع الدولي. فهل نحن سائرون إلى ما أفضت إليه نتائج حرب أكتوبر ولكن بشكل مغاير، وإعطاء شخوص قياداتها هالة من الضوء الديني والدنيوي يحجب الأضرار التي يعانيها الأطفال والشيوخ والنساء وكل الأبرياء في لبنان؟ فالتمييز بين المقاومة الإسلامية بقيادة حزب الله والشعب اللبناني بمكوناته الدينية والطائفية أمر في غاية الأهمية، منعا للخلط بين طالب للموت من أجل الشهادة وطالب للشهادة من أجل الحياة! ليتبين بسطاء الناس الفروقات بين القاعدة بفكرها العدمي وبين مقاومة لها كل مقومات الحياة والاستمرار.
لماذا لا نتعلم من اللبنانيين الوقوف صفا واحدا؟ وخصوصاً إنهم أصحاب تجربة طويلة وقاسية كان ثمنها فادحا من إمكانات الدولة اللبنانية ومقدراتها إن على جميع المستويات. ولاحظوا كيف إنهم يتعرضون لأشرس حرب، على رغم أن قرارها لم يحصل على إجماع وطني فإنهم صامدون بكل إباء وشموخ في وجه العدوان، ويعبرون في الوقت ذاته، على الجبهة السياسية عبر المفاوضات، عن موقف لا يعكس إلا ضيقهم وتذمرهم من قرار الحرب الذي يشيعون خطأه دونما حرج، ولكن، أيضاً دونما خيانة. يعطينا اللبنانيون درساً مدفوعاً ثمنه دماً، فهلا امتثلنا وقدرنا عطائهم؟
كاتب بحريني
العدد 1422 - الجمعة 28 يوليو 2006م الموافق 02 رجب 1427هـ