العدد 1422 - الجمعة 28 يوليو 2006م الموافق 02 رجب 1427هـ

لبنان بعد 12 يوليو

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

مضى 18 يوماً على حرب الدمار الشامل التي قادتها «إسرائيل» على لبنان دولة ومقاومة. وحتى الآن تبدو الحرب مفتوحة ومكشوفة دولياً وإقليمياً وعربياً ومحلياً. وبسبب انكشاف السماء اللبنانية من الصعب تحديد النهايات الكلية للحرب المحروقة. فالحسابات حتى الآن جزئية وتختلف في قراءة عناصرها بين جهة وأخرى. فالبعض يقول إن لبنان ربح المعركة منطلقاً من نظرة سلبية للدفاع الميداني. والبعض يقول إن لبنان خسر المعركة في معنى عجزه عن بناء عناصر الممانعة الأهلية وإعادة مشروع الدولة، بينما كسب المحور الثنائي الإقليمي (سورية وإيران) تداعيات الانهيار العام التي ضربت البنية التحتية للدولة والبنية السكانية للمقاومة.

كل هذه القراءات ليست نهائية في اعتبار أن الحرب لم تنته فصولها وهناك احتمالات ترجح انفتاحها على جبهات مختلفة في حال تدحرجت «كرة النار» وتوسع نطاقها الجغرافي. اتساع النطاق الجغرافي للحرب موضوع غير مؤكد، لكنه يعتبر خطوة خاضعة للتفاوض مع القوى الإقليمية. فالاتساع الجغرافي فرضية سياسية مرهونة بالمدى الذي تستطيع القوى الفاعلة على الأرض إدارته والتعامل مع تداعياته ومفاعيله.

حتى الآن لا توجد مؤشرات دامغة تؤكد انفتاح الحرب إقليمياً. إلا أن التكهنات في هذا الشأن غير مستبعدة إذا فشلت الاتصالات «السرية» والعلنية التي بدأ الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان يقوم بها على خطين: دمشق وطهران. فالمكالمات الهاتفية وربما احتمال إرسال الوفود الأوروبية والدولية إلى سورية وإيران مضافاً إليها تلك التصريحات التي صدرت عن تل أبيب وواشنطن ونيويورك وشددت على أهمية أخذ مشورة القيادتين السورية والإيرانية في الاتفاق على وقف النار والتوصل إلى حل سياسي/ دبلوماسي... كل هذه التحركات تشي بوجود طبخة إقليمية يتم إعدادها دولياً لمحاصرة نيران الحرب وضبطها ضمن الحدود اللبنانية.

هناك إذاً اتصالات «سرية» وعلنية، دولية وأوروبية، مباشرة وغير مباشرة على الخطين السوري والإيراني. معطوفاً عليها سلسلة تصريحات صدرت عن الجانب الإسرائيلي في هذا الشأن. فحكومة تل أبيب أكدت مراراً أنها لا تنوي توسيع جبهة القتال إلى خارج الحدود اللبنانية، لكنها رهنت موقفها بمدى تجاوب الحكومة السورية مع مشروع الحل الذي بدأت القوى الدولية بإعداده. كذلك لم تمانع حكومة ايهود اولمرت من اعطاء دور ما لدمشق في المساعدة على حل «الأزمة» بشرط ألا تتكرر تلك الأخطاء والهفوات التي نظمت العلاقة الثنائية ميدانياً وسياسياً وإقليمياً ودولياً في الساحة اللبنانية منذ العام 1976.

مسألة اتساع نطاق الحرب خارج الأراضي اللبنانية لاتزال محكومة بالشروط الدولية والإقليمية وحتى الآن تخضع لتوازن القوى في الميدان العسكري. فإذا نجحت «إسرائيل» في تموضع قواتها في القشرة (الشريط الحدودي) وأقامت رؤوس جسور تشكل معابر مرور ونفوذ لجيوشها على غرار ما تفعله الآن في غزة فمعنى ذلك أن تل أبيب ليست بحاجة إلى اعطاء دور إقليمي لسورية وإيران في ضبط المعادلة اللبنانية. أما إذا فشلت تل أبيب في إقامة ذاك «الشريط الأمني» بسبب صمود حزب الله وثباته في المواقع واستمرار تساقط الصواريخ القريبة أو البعيدة المدى على المستوطنات والمستعمرات فإن حكومة أولمرت تصبح في موقع يضغط عليها للاتصال دولياً بالمحور السوري - الإيراني والموافقة على صيغة متبادلة تضمن توازن المصالح بين الطرفين.

الحرب إذاً لم تنته فصولها السياسية والنارية حتى الآن. وهي بعد مرور 18 يوماً على اندلاعها تراوح في مكانها الميداني والدولي. فمن جهة التصادم الميداني فشلت تل أبيب في تحقيق اختراق يسمح لها الادعاء بتسجيل انتصار. ومن جهة التجاذب الدولي فشلت تل أبيب في أخذ «ضوء أخضر» أميركي يسمح لها توسيع نطاق العمليات خوفاً من ردود فعل وتداعيات غير محسوبة.

هذا النوع من «التوازن السلبي» الميداني والدولي يمكن أن يؤدي إلى ابقاء الوضع على حاله من دون حل أو حسم عسكري. وفي حال استقر التوازن على السلبيات فمعنى ذلك أن الحرب ستطول إلى فترة إضافية حتى يتبلور ذاك الحل السياسي سواء بالوساطة السورية - الإيرانية أو من دون تلك الوساطة. كذلك فإن تمديد واشنطن لفترة الحرب تقصد منه اعطاء فرصة لحكومة اولمرت لتسجيل «انتصارات» عسكرية في الميدان تسمح لها فتح باب التفاوض مع دمشق وطهران من موقع القوة.

لبنان المحروق والمشوه

من الآن حتى تتوضح صورة الموقف الدولي - الميداني فإن لبنان (دولة ومقاومة) سيبقى مساحة مفتوحة للحرب المحروقة التي تشنها «إسرائيل» نيابة عن الولايات المتحدة. فلبنان من دون توافق وغصباً عن إرادته الاجماعية (وهذا مستحيل في بلد متعدد الطوائف والمذاهب أن يحصل) تحول إلى منصة اطلاق صواريخ سياسية تطمح إلى إعادة المحور الثنائي إلى الساحتين المحلية والإقليمية. وبغض النظر عن نتيجة الموقف الدولي - الميداني واحتمال توقف الحرب غداً أو بعد أسبوع أو احتمال انفتاحها وتجاوزها للحدود فإن لبنان بعد 12 يوليو/ تموز اختلف وتغير في الكثير من الحالات والوجوه وحتى التحالفات والقراءات.

لبنان الآن تحول إلى بلد مختلف في مزاجه وغضبه ونظرته إلى الأمور المصيرية (القومية أو الإسلامية). فبعد هذه المصيبة التي حلت به بات من الصعب الوقوف مجدداً على السوية نفسها التي كانت تتحكم بتوازناته الأهلية وما تعنيه من احترام المصالح. فالناس الذين تلقوا الضربات الجوية والصاروخية من دون غطاء دولي وإقليمي وعربي ومن دون تحرك يضمن انهيار دولته ومقاومته سينظرون من الآن نظرة مختلفة إلى كل الأمور وسيقرأون «المصير المشترك» من زاوية لا تتناسب مع المحور الثنائي حتى لو عاد هذا المحور إلى لبنان من خلال واجهة الاتصالات الدولية «السرية» والعلنية.

هناك لبنان آخر يتشكل الآن من تحت الانقاض. وهذا الشكل الجديد لم تتبلور صورته بسبب تكسر الأجزاء وتبعثرها طائفياً ومناطقياً. إلا أن احتمال تبلور الصورة ستتضح معالمها بعد وقف تلك الآلة الجهنمية، التي تقودها «إسرائيل» نيابة عن الولايات المتحدة، قصفها على الناس والعباد والبشر والحجر.

لبنان الآخر لن يكون كما كان قبل 12 يوليو سواء على مستوى تركيبته السكانية وتوزع قواه الطائفية مناطقياً أو على مستوى رؤيته للجيران وعدم حرصهم على ما أنتجته حرب التقويض ضد دولته ومقاومته. هذا لا يعني أن لبنان لن يتحول إلى ساحة، لكن هذه المرة ستكون جغرافيته «ساحات» متخالفة تتخاصم على الكثير من الأمور بدءاً من فائدة الاستمرار في التعامل مع «صيغته الطائفية» وانتهاء بالنظرة إلى الدولة ودورها في توحيد الطوائف ضمن «هوية جامعة».

ما حصل في 12 يوليو كان كارثة في كل المعايير السياسية. وبغض النظر عن الصمود البطولي العسكري والنتائج الميدانية والدولية التي ستسفر عنها النهايات العامة فإن ما حصل أصاب اللبنانيين بصدمة كبرى وقلص تلك الثقة التي كانت ممنوحة لأطراف مشاركة في القرار والمصير في مجلس النواب والحكومة، وأضعف الرهان الاستراتيجي على المحور السوري - الإيراني. فالصدقية مسألة مهمة في عالم السياسة، لكنها للأسف غير موجودة في العالم الذي يحيط بلبنان. وبسبب صدقية هذا البلد الصغير كان دائماً ضحية التلاعب بوحدته ومصيره.

هذه المسألة الحساسة ستشكل لاحقاً نقطة تجاذب أهلية «خطيرة» بعد توقف اطلاق النار والتوصل إلى حل دبلوماسي سياسي دولي. وبغض النظر عن بنود الحل، وسواء حصل بمشاركة سورية - إيرانية أو من دون مشاركة فإن لبنان المحطم المتروك لوحده يتخبط ويتبهدل ويتفكك وتدمر احجاره وبشره لسبب واحد (توجيه رسائل سياسية) سينهض من تحت الركام بشخصية مختلفة عن تلك التي ظهر بها سابقاً. فالتشويه حصل والحرق حصل وبالتالي فإن وجه لبنان سيكون على شاكلة ذاك التشوه الذي حطم ثقته بأهله وجيرانه الفرحين بدماره.

مضى 18 يوماً على حرب الدمار الشامل وحتى الآن لاتزال الحرب مفتوحة ومكشوفة ومحروقة وبغض النظر عن نتائجها الميدانية والإقليمية والدولية فإن لبنان بعد 12 يوليو تغير... ولم يعد جميلاً كما كان

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1422 - الجمعة 28 يوليو 2006م الموافق 02 رجب 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً