لم يعد يوجد مكان للسؤال القائل: هل ما قامت به «إسرائيل» رد فعل على عملية حزب الله أم أنه أمر تم التخطيط له بليل؟ فقد اتضح وجود المخطط منذ أمد بعيد، ينتظر الفرصة للانقضاض على لبنان وتقطيع أوصاله من أجل تثبيت وضع جديد يتسم بالديمومة والاستمرار، يضمن لـ «إسرائيل» التفوق الكاسح على جيرانها، ويجعلهم رهن عربدتها، المنطقة حالياً تعيش مخاض ولادة شرق أوسط جديد، لا يرجع الأمور لما كانت عليه قبل 12 يوليو/ تموز، كما صرحت وزيرة الخارجية الأميركية كوندليزا رايس في زيارتها للبنان بتاريخ 24 يوليو.
في الوقت نفسه، اتضح أمر آخر بشأن التصريحات التي اتهمت حزب الله بالمغامرة، فإما إنها جزء من اللعبة وفي سياقاتها، أو إنها تصريحات مذهولة وتعيش في غيبوبة بعيداً عن إدراك اللعبة الأميركية الإسرائيلية في تكوين شرق أوسط جديد. والسؤال: من الرابح؟
في رأي كاتب السطور، في كل الاحتمالات، الرابح هو المقاومة، فإذا ما قبلت «إسرائيل» بوقف فوري لإطلاق النار من دون شرط أو قيد، أو استطاع الحزب دحر العدوان، أو دخلت «إسرائيل» واحتلت الجنوب أو جزءاً منه، ففي كل هذه الاحتمالات حزب الله هو الرابح في نهاية المطاف. أما الاحتمالان الأول والثاني ، فهما من الوضوح بمكان، ولكن لو استطاعت القوات الإسرائيلية دحر قوات الحزب برياً، فإن المقاومة ستربح على المدى المتوسط والبعيد.
«إسرائيل» المتعودة على كسب الصراع بالضربة القاضية ومن الجولة الأولى، والتي استطاعت دحر جيوش عدد من الدول العربية في يونيو/ حزيران 1967، فلم تمض سوى ستة أيام من بدء الحرب إلا وقد احتلت القدس وهضبة الجولان وغزة وسيناء. هذا الجيش الذي أطلق عليه الجيش الذي لا يقهر مازال على مشارف الحدود، ولم يستطع حتى اليوم الرابع عشر تخطي أكثر من بضع كيلومترات إلى الداخل اللبناني، وهذا يعد تمريغاً لوجه هذا الجيش في الوحل، وهو يقابل أفراداً هواة إن صح التعبير، كانوا حتى وقت قريب يجمعون بين العمل متدربين في سلك حرب العصابات وبين الاستغراق في العمل من أجل كسب لقمة العيش لصعوبة الحياة المعيشية في لبنان.
التصريحات الإسرائيلية تدلل على أن الدولة العبرية في ورطة، فمع أنهم يحاولون اختراق الحدود إلا أنهم يصرحون بعدم رغبتهم في ذلك لانعدام الثقة بكسب المعركة، وفي الأسبوع الأول كانوا يرفضون رفضاً باتاً وقف إطلاق النار، ووضعوا لهذا الهدف شروطاً تعجيزية، منها نزع سلاح حزب الله وتسليم الجنديين الأسيرين من دون قيد أو شرط، ورفض وجود قوة دولية على الحدود. الآن يتحدثون عن قوة دولية من جيوش شمال الأطلسي، وفي الأيام المقبلة إذا ما ظهرت المبادرات العربية لإنهاء الصراع، فهذا مؤشر على السعي إلى حفظ ماء وجه الأنظمة المتورطة وإنقاذ ماء وجه «إسرائيل» التي يبدو أن الحزب ينجح في استدراجها للتورط في حرب استنزاف طويلة الأمد داخل الحدود اللبنانية.
ولو افترضنا تمكن «إسرائيل» من الهجوم البري، فهذا سيدشن فصلاً جديداً من المقاومة التي تملك كل المبررات الشرعية وأسباب استمرارها، وخصوصاً أن القضاء على حزب الله ليس أمراً هيناً، إذ إن الحزب ليس حركة طارئة على الدولة والمجتمع، وليس مجرد نتوء زائد في الجسد اللبناني، فأفراده العقائديون يعيشون في كل بيت من الجنوب حتى البقاع والضاحية الجنوبية لبيروت، والأيام المقبلة حافلة بإعادة حياة المقاومة مرة أخرى من خلال توريط «إسرائيل» حين تتغلغل براً.
إن الخاسر الأكبر في هذه الحرب، هو المشروع الأميركي ومن ورائه الكيان الصهيوني، وستكون هذه المعركة سبباً للوحدة الوطنية وتوحد المسلمين بعد تقلص تأثير التيار التكفيري المتغول في أجزاء من الجسد الإسلامي الواحد، وهذا هو الخاسر الثاني. هذا التيار الذي يطلق عليه بتيار الجهاد، قد فرض على نفسه عزلة حتمية نتيجة مواقفه المخجلة التي سيسجلها التاريخ حيال المعركة القائمة، والتي يبثها من خلال فتاوى بعض مشايخه التي تحرم حتى الدعاء للمقاومة الإسلامية في البنان بالنصر، بل واعتبار طرفي الحرب يجب قتالهما لشركهما وكفرهما. وحتى قبل انفجار الصراع الحالي بين الحزب و«إسرائيل»، كان هؤلاء يلجأون للتعمية الإعلامية من أجل تصفية المكاسب التي نالتها المقاومة بإخراجها «إسرائيل» من لبنان في 25 مايو/ أيار 2000، فمنذ ذلك التاريخ حاولوا إظهار حزب الله عميلاً لـ «إسرائيل»، وقامت الأخيرة بتضخيمه من أجل أغراض معينة، وهو يعمل على حماية حدودها... وغير ذلك من ترهات من الوزن الثقيل. كانت النزعة التكفيرية ضمن قابليتها المدهشة لهضم هذه الأكاذيب التي كررتها حتى صدقتها، وقامت أيضاً بتسويقها بين أنصارها لمدة طويلة.
أما الآن فنظرة سريعة على مواقف كبار الشخصيات الإسلامية من جميع الطوائف والمذاهب الإسلامية وغيرها من توجهات وتيارات، تجد كم هي درجة الاستياء من هذه الروح الموبوءة بالروح الطائفية، وبدأت بوادر العزلة لتيار التكفير الذي يسعى إلى شق صفوف المسلمين، تتبدى من خلال بيانات دعم المقاومة من الكثير من كبار العلماء الذين لا يستطيع هذا التيار التشكيك في نزاهتهم وتأثيرهم، كبيان العالم والداعية السعودي الشيخ محسن العواجي وإن جاء بعد 13 يوماً، وكذلك مطالبة الشيخ سلمان العودة بدعم المقاومة في المعركة الحالية وغيرهما كثيرون.
إن الدخول البري لو نجح فإنها بداية مسلسل حرب العصابات والمقاومة طويلة الأمد، وفي هذا إحراج كبير لبعض الأنظمة العربية التي لم تكتف بإرسال مجرد إشارات، بل رسائل سرية للقيادة الإسرائيلية - بحسب المصادر الإسرائيلية الرسمية - تعبر عن دعمها ورغبتها في إنهاء أسطورة حزب الله والقضاء على مكانته لما يشكله لها من حرج أمام شعوبها، والمكانة التي نالها زعيم الحزب بين مختلف التوجهات، فأصبح بطلاً قومياً عربياً إسلامياً. وسبب الإحراج القادم هي المقاومة المنتظرة التي ستشب في حال تمكنت «إسرائيل» من احتلال أجزاء من لبنان، وهذه الأنظمة هي الخاسر الثالث لتورطها ضد المقاومة.
كاتب بحريني
إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"العدد 1421 - الخميس 27 يوليو 2006م الموافق 01 رجب 1427هـ