العدد 1421 - الخميس 27 يوليو 2006م الموافق 01 رجب 1427هـ

التاريخ والإسلام في التفكير الأوروبي

نهاية الاستشراق (2)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

ما الشرق وما حدوده؟ وأيضاً كيف نشأت النظرة الشرقية والنزعة الاستشراقية؟

الشرق كلمة مطاطة وتعريف عام يمتد ويتقلص. مرة يضم مناطق واسعة ومرة تخرج من تعريفه مناطق اخرى. وعموماً اقتصر التعريف على تحديدات مجردة ومطلقة مثل ان «الشرق هو المناطق الغربية والوسطى الواقعة عند اطراف حزام الجفاف في العالم القديم». وأحياناً «الشرق هو ذلك الجزء من العالم القديم المحيط بالبحر المتوسط، الذي احتله العرب (ثم البربر والاتراك) وينتمي حالياً في معظمه إلى الإسلام». إذاً الشرق اختصاراً هو ثلاثة اضلاع: جغرافياً (منطقة جفاف) وسياسياً (احتله العرب والبربر والاتراك) ودينياً (ينتمي إلى الإسلام).

ضمن التعريف (التوصيف) المثلث الأضلاع تم صوغ النظرة الأوروبية المركزية إلى الشرق. إلا أن التوصيف المذكور خضع تاريخياً لتقلبات وتطورات ارتبطت اصلاً باتساع رقعة مصالح أوروبا وتنوع احتكاكها بشعوب حضارية غير مسلمة الأمر الذي املى على المدارس الأوروبية تطوير مفهومها وتنويعه. وانتهى الأمر إلى تقسيم الشرق إلى ثلاث دوائر جغرافية: الشرق الاقصى (البعيد) والشرق الأوسط ثم الشرق الادنى (القريب). ومع تطور المواصلات اختزل الشرق الادنى فشمل تعريف «الشرق الأوسط» الأوسط والادنى معاً وبات الشرق يختصر في رقعتين جغرافيتين الاقصى والأوسط. وبقي الشرق بمجمله يعني ضمناً تلك «الرقعة الممتدة من الاطلسي حتى جبال الهند. اي المناطق التي أصبحت منذ القرون الأولى للهجرة النبوية تحت سيطرة الإسلام».

وهكذا اقتصر التعريف على العالم الإسلامي من المحيط الاطلسي (المغرب وشمال إفريقيا) إلى جبال همالايا في الهند (المغول)، بينما قسم الشرق الاقصى إلى حضارات هندية وصينية ويابانية.

لعب تعريف الشرق وتوصيفه الجغرافي - المكاني دوره المميز في رسم الصورة الذهنية عن عالم الإسلام وحدد إلى حد كبير دائرة التخيل واطرها الفكرية والثقافية خصوصاً عندما كانت العلاقة تضطرب وتنتقل من التبادل (التعارف) إلى الاصطدام والتنافس (التدافع). وضمن اطار الاصطراع المصلحي تم صوغ صورة الآخر. فالتصور لم ينشأ من حب المعرفة وروح المغامرة فقط بل نسج في دائرة الصراع (الصدام والتنافس) أيضاً الأمر الذي انتج معرفة «ناقصة» و«مشوشة» و«مشوهة».

قبل تصاعد الاحتكاك بين أوروبا والعرب (المسلمون عموماً) كانت فكرة كل طرف عن الآخر محدودة وكانت تنتقل عن طريق النقل وتجار القوافل. وكانت الأفكار مجرد روايات شفهية منقولة مأخوذة أساساً من الاحتكاك المباشر والمشاهدة العيانية الناتجة أصلاً عن حاجة أوروبا لطرق المواصلات البحرية والبرية التي يسيطر عليها المسلمون (طريق الهند وطرق الحرير إلى الصين) وعن حاجة المسلمين لقوافل أوروبا التجارية، إذ كان حكام الولايات المسلمة يفرضون الضرائب على البضائع ويأخذون رسوم مرور على القوافل وتخليص البضائع.

لم يقتصر دور العالم الإسلامي على التوسط (الوساطة التجارية) بل نشأت عبر ذلك علاقات تبادل وتفاعل، إذ كانت هناك بضائع من منتوجات أراضي المسلمين تباع لتجار القوافل الأوروبية، كذلك كان أهالي المناطق المسلمة يستهلكون ويشترون كمية من البضائع الآسيوية التي كان ينقلها الأوروبيون في رحلات العودة. إلى ذلك كان تجار العالم الإسلامي (العربي) يقومون برحلاتهم التجارية الخاصة إلى الشرق البعيد (الصين) والشرق القريب (الهند) ويتبادلون منتوجاتهم مع تلك الشعوب، وأيضاً ينقلون منتوجات الصين والهند للاستهلاك المحلي أو لإعادة تصديرها من موانئ البحر المتوسط وعن طريق بلاد الشام ومصر إلى أوروبا.

قوافل التجارة

إذاً عن طريق التجارة وطرق المواصلات نشأ الاحتكاك والتبادل. وبسبب التنافس على التجارة وخطوط الاتصالات والمواصلات البرية والبحرية تطور الاحتكاك إلى صراع واصطدام. وفي الإطار الصدامي المذكور تكونت التصورات والتخيلات الذهنية عن الآخر. وكانت الصورة المنقولة عن الآخر مشوشة ومشوهة على الغالب، فهي من جهة تعتمد على المكان كحقل للمعرفة ومن جهة أخرى هي اسيرة الزمان وتفاعلاته السلبية والايجابية.

قبل القرن الحادي عشر (الميلادي) كان التوازن في العالم القديم هو سيد الموقف وكان يتشكل من ثلاث قوى كبرى: أوروبا، العالم الإسلامي والشرق الاقصى. وبسبب توازن القوى ساد العوالم الثلاثة علاقات توتر سلمية تقوم على التبادل التجاري ونقل المنتوجات والمصنوعات من الشرق إلى أوروبا ومن أوروبا إلى الشرق ومنهما إلى العالم الإسلامي ومن العالم الإسلامي اليهما.

ولعب العالم الإسلامي بحكم موقعه الجغرافي الدور الرئيسي في علاقات التبادل، فهو يتوسط أوروبا والشرق وهو اقرب إلى الشرق قياساً لأوروبا وأقرب إلى أوروبا قياساً للشرق.

وبسبب الموقع المذكور نشأ التنافس التاريخي. فالشرق لا يستطيع الاتصال المباشر بأوروبا من دون وساطة العالم الإسلامي وأوروبا لا تستطيع الاتصال بآسيا من دون المرور في أراضي العالم الإسلامي.

وهكذا تطورت الحاجة إلى نوع من تنازع القوة والبقاء. وبدأت التصورات المشوشة والمنقولة من التجار والقوافل تلعب دورها في تحريك الخيالات الدينية، وأخذت مصالح القوة التجارية تتداخل مع مصالح الكنيسة وارتبط المفهوم عن الآخر وتداخل بالصورة الدينية والمصلحة الاقتصادية في آن.

حروب الفرنجة

ادى التحالف الديني والتجاري في أوروبا المسيحية إلى اضطراب العلاقة السلمية. وتطور التنافس على التجارة وخطوط المواصلات إلى تزاحم وتصادم أمليا على أوروبا (الكنيسة) استنفار قوى القارة ليس للدفاع بل للهجوم. ونشأ في تلك القارة أول تحالف دولي في التاريخ لمقاتلة المسلم واسترداد الأراضي المقدسة (فلسطين) من سيطرة العرب.

إلى جانب حروب الفرنجة (الصليبية) في الشرق نهضت معها دعوة أخرى للحرب المقدسة ضد العرب المسلمين في اسبانيا اطلق عليها حروب الاسترداد.

وهكذا ارتبط الديني بالتجاري والمقدس بالمال، فاندلعت اضخم الحروب واطولها في التاريخ واكثرها قسوة وظلماً ووحشية. آنذاك كانت قوى العالم الإسلامي تتوزع على ثلاثة مراكز: العراق، مصر، والاندلس، بينما كانت بلاد الشام منطقة تجاذب للقوى المسلمة في وقت كان السلاجقة (الاتراك العثمانيون) يمدون نفوذهم في بلاد الاناضول.

في القرن نفسه (الحادي عشر) بدأت حروب الاسترداد في اسبانيا وحروب الفرنجة في المشرق بهدف الاستيلاء على المعابر والخطوط والطرق البرية والبحرية وتحت شعارات المقدس الديني.

نجحت الحرب المقدسة الأولى (حملات استرجاع اسبانيا) في 1085م (478 هـ) في احتلال طليطلة في عهد الفونس السادس، ثم تطورت في مطلع القرن الثالث عشر (1212م) في عهد فرناندو الثالث، ثم تصاعدت الحرب إلى ان انتهت بسقوط غرناطة في نهاية القرن الخامس عشر (1492م). وخضع المسلمون كأقلية للسلطات الجديدة واطلق عليهم (الموريسك) واستمروا هناك إلى ان تم اجلاؤهم (ترحيل 130 ألف مسلم) إلى خارج اسبانيا في مطلع القرن السابع عشر (1609م).

وفي الفترات نفسها نجحت الحرب المقدسة الثانية (حملات استرداد الأراضي الفلسطينية) في شحن نفوس جماهير أوروبا ودفعها للقتال في الشرق. وبدأت الحرب بعد نجاح مجمع كليرمونث في العام 1095م (488 هـ) في تجميع القوى اثر نداء البابا اوربانوس الثاني وارسال أول حملة صليبية. واخذت مدن الشرق (بلاد الشام) وحواضره تتساقط (القدس، حمص، انطاكيا، طرابس) واقام الفرنجة (الصليبيون) دويلات سادها النظام الاقطاعي لمدة قرنين تقريباً. وأهم الفئات التي استفادت من «الحروب المقدسة» المجموعات التجارية المتمركزة اساساً آنذاك في البندقية وجنوى. وبدأ نفوذ المد «الصليبي» بالانحسار بعد العام 1119م (513 هـ). إلا أن أوروبا كانت ترسل الحملة تلو الأخرى لتسترد ما خسرته بتمويل من التجار وتحريض من الكنيسة. فكانت الحملة الثانية والثالثة (1192م/ 588هـ) والرابعة والخامسة، وأخذت اهداف الحملات تتبدل وتتفرع وتتسع وطالت مناطق مغربية والقسطنطينية (روم ارثوذكس) ومصر بذريعة فصلها عن بلاد الشام.

طالت حروب الفرنجة وامتدت إلى العام (1250م/ 648هـ) ولكنها وانتعشت قليلاً بعد حملة المغول من الشرق وتدمير هولاكو بغداد (1258م/ 656هـ) ومحاولتهم الدخول إلى الشام واحتلال مدنها وحواضرها. وشجعت حملة المغول وسقوط بغداد بعض امراء الممالك الصليبية الباقية في بلاد الشام على التحالف مع المغول والتنسيق معهم عسكرياً لمواجهة الصحوة الإسلامية التي هبت على المنطقة واجتاحت الناس، بعد نجاح صلاح الدين الايوبي في كسر الفرنجة في معركة حطين (1187م/ 583هـ) في نهاية القرن الثاني عشر الميلادي. فشل التحالف الصليبي - المغولي بعد نجاح المماليك في كسر الهجوم المغولي في معركة عين جالوت (1260م/ 658هـ) وهي معركة يعتبرها الباحثون نقطة تحول التاريخ. ولكن حروب الفرنجة استمرت واستمرت إلى ان انتهت بسقوط عكا آخر المعاقل «الصليبية» في نهاية القرن الثالث عشر (1291م/690هـ).

تاريخ العنف المتبادل

شكلت الحروب المذكورة-وهي لم تنته إلى أيامنا-الخلفية التاريخية لاطار الصورة الذهنية عن الآخر المسلم (الشرقي) الهمجي المتخلف المتوحش الدموي. وبسبب امتداد الحروب وتواصلها الزمني ترسخت الصورة في قاع الذهن وتم توارثها والاضافة إليها من الخيالات والروايات والاخبار المنقولة. فتكونت الفكرة في وعاء تاريخي اتصف بالدموية والاصطدام الدائم وتداخلت فيها الاوهام مع الحقائق، ولعب التحريض الايديولوجي دوره في لحظات التعبئة العسكرية لتنظيم الحملات إلى الشرق البعيد، وتشابك المقدس مع المصالح ليصنع لوحة يطغى عليها الرمز البشع الممزوج بالحقد والكراهية.

اخطر من وحشية تلك الحروب طول مدتها الزمنية. فحروب الاسترجاع (الاسترداد) في اسبانيا دامت منذ سقوط أول ممالك المسلمين إلى طرد آخر مسلم من شبه الجزيرة الايبيرية نحو ستة قرون (524 سنة بالضبط) شهدت خلالها الاندلس ابشع أنواع حروب التدمير والاقتلاع الثقافي والعمراني والبشري.

وامتدت حروب ا

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1421 - الخميس 27 يوليو 2006م الموافق 01 رجب 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً