كشف «مؤتمر روما» عن أوراق مستورة في الحرب الأميركية - الصهيونية على لبنان: دولة ومقاومة. وجدد فشل المؤتمر، في التوصل إلى اتفاق سريع ومباشر لوقف إطلاق النار، نمو التعارض بين منطق الدولة ومنطق المقاومة.
مشروع الدولة التي تقوضت أركانها السياسية وتحطمت مرتكزاتها الاقتصادية أصبح في حال يرثى لها. فالدولة تملك الصلاحيات ولا تملك سلطة القرار. والمقاومة التي نجحت في التصدي للاختراقات الإسرائيلية في «القشرة» الحدودية جددت مطالبها السابقة بـ (وقف النار وتبادل الأسرى) ورفضت القبول بتلك الأفكار التي طرحها رئيس الحكومة فؤاد السنيورة في روما. والمقاومة في هذا المعنى أقوى من الدولة فهي لا تملك الصلاحيات ولكنها تملك سلطة القرار.
هذا التعارض كشف بعض تلك الأوراق المستورة في سياسة التقويض التي اعتمدتها «إسرائيل» بتشجيع من الولايات المتحدة. فالتقويض كان شاملاً ولم يوفر أي مكان أو منطقة أو طائفة الا ووجه إليها الضربات بقصد خلخلة التوازن الداخلي وزعزعة الاستقرار الأمني ودفع القوى الأهلية إلى التخالف كما هو حال العراق الآن. فالحرب المفروضة والمفتوحة والمكشوفة اعتمدت منذ 12 يوليو/ تموز الجاري سياسة الأرض المحروقة وتفريغ الجنوب من سكانه وتشكيل قوة ضغط حربية على القشرة (الحدود الدولية) كما هو حال قطاع غزة المعزول عن العالم منذ أكثر من شهر.
الولايات المتحدة استخدمت وكيلها الأمني في المنطقة لتمرير خطة المشروع. والخطة كما ظهرت ملامحها الميدانية كشفت عن وجود تقاطع بين تل أبيب وواشنطن يقوم على فكرة منع الدولة اللبنانية من العودة إلى الساحة السياسية وتعطيل كل المرتكزات المطلوبة لإعادة بناء أو تجديد مشروع الدولة. وفي حال نجاح «إسرائيل» في هذا المخطط المدعوم أميركياً يمكن توقع قيام نموذج قريب من ذاك الذي نهض في العراق بعد تقويض دولة الرافدين/ التكريتية.
أميركا إذاً تخطط لتطييف البلد الصغير (عرقنة لبنان) ومنع إعادة تشكيل دولته الضعيفة أصلاً من خلال إفشال تلك الصيغة الطائفية التي لم تنجح طوال تلك الفترة الممتدة من العام 1920.
هذا الوضع لم تستوعبه حتى الآن لا الدولة (المقوضة والمشلولة) ولا جماعة قوى «14 آذار». وهذا ما يمكن ملاحظته من التصريحات المضحكة التي يطلقها أحياناً أركان الدولة التي تحولت إلى أشلاء وحطام وهيكل عظمي. رئيس الحكومة (السنيورة) مثلاً وقف، في المؤتمر الصحافي الذي عقد في روما بعد إعلان فشله، يستعرض خطة «الدولة» لحل مشكلات مزارع شبعا وتسليم الأسرى وخريطة الألغام والانسحاب إلى الحدود وإرسال الجيش الى آخر المطالب اللبنانية. هذا الكلام أثار استغراب وزيرة الخارجية كوندليزا رايس ونظرت اليه باستخفاف. بعدها استرسل السنيورة في استعراض خطة «الدولة» وبرامجها فهدد بان لبنان سيرفع دعوى على تل أبيب لمطالبتها بدفع «تعويضات عن الخراب الذي أحدثته ترسانتها بالبنية التحتية». وهنا وضعت رايس يدها على رأسها وأدارت ظهرها للسنيورة، ونظرت إلى الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان ودعته إلى مواصلة اتصالاته بدول المنطقة، بما فيها إيران وسورية، للبحث عن أية مساعدة ممكنة لحل المشكلات المطروحة والمزمنة.
حتى الآن، كما يبدو من التصريحات والتصرفات، لم تستفق «الدولة» في لبنان من هول الضربة ولم تفهم الرسالة ولا تلك الاشارات التي وجهتها قنابل «إسرائيل» وصواريخها لتحطيم البنى التحتية لمشروع «اتفاق الطائف».
إلغاء اتفاق الطائف
«اتفاق الطائف» الذي عقد في السعودية تضمن الكثير من الأفكار لكنه قام في نهاية الأمر على فكرتين: إعطاء فرصة أخيرة لإعادة بناء مشروع الدولة، وترك الباب مفتوحاً للمقاومة لاستكمال مشروع التحرير.
فكرة بناء الدولة وإعمارها تم تلزيم إدارتها للرئيس رفيق الحريري وقام الأخير بإنجاز المشروع بتمويل سعودي ورعاية فرنسية (أوروبية). وفكرة التحرير قضت بتسليم كل أحزاب الطوائف اللبنانية أسلحتها إلى الدولة واستثني حزب الله من هذا البند في اعتبار ان الاحتلال الصهيوني تقتصر حدوده على الجنوب والبقاع الغربي المحاذي للحدود السورية. ونجح الحزب في مشروع التحرير وطرد الاحتلال في العام 2000.
بعد العام 2000 تعقدت المشكلة وتحولت إلى عقبات عطلت الكثير من العلاقات الداخلية. وهذا الأمر تطور إلى أن تزعزع مشروع استكمال بنود «اتفاق الطائف». فالاستثناء شكل قوة موازية للدولة، والدولة التي نجحت في إعادة إعمار البلاد وجدت نفسها عاجزة عن بسط سلطتها في الكثير من المناطق اللبنانية. وهكذا دخل لبنان في فترة تجاذب بين منطق الدولة ومنطق المقاومة. فالأول يقول إن التحرير أنجز وما تبقى يمكن أخذه بالتفاوض الدبلوماسي والحلول السياسية، والثاني يقول إن التحرير لم ينجز ولابد من استمرار المقاومة حتى لا تستغل «إسرائيل» الفرصة وتغدر بالدولة وتحطم أبنيتها وتزعزع أمنها.
هذا الاختلاف بين المنطقين تعايش إلى فترة ليست بسيطة تحت سقف واحد. إلا أن التمديد للرئيس اميل لحود وصدور القرار 1559 وضع سقفاً دولياً فوق سقف تعايش «الدولة والمقاومة». وتحت سقف التدويل بدأت الولايات المتحدة بزعزعة استقرار البلد. فقتل رفيق الحريري، وخرجت سورية من لبنان، وانقسم البلد إلى «8 آذار» و«14 آذار» وبدأ الحوار الوطني (الطاولة المستديرة) يدير النقاش ويعيد إنتاج الخلاف ويربع الدائرة ويدوِّر المربعات إلى أن وقعت العملية الدفاعية النوعية في 12 يوليو.
منذ تلك اللحظة انعطف التاريخ ودخل لبنان مرحلة جديدة ويبدو أن أركان «الدولة» غير قادرين على استيعابها والتقاط إشاراتها. فالدولة الآن لا تملك قرار السلم والحرب ومفاتيح الحل موجودة في مكان آخر. هذا أولاً.
ثانياً: من يحارب يفاوض ومن لا يحارب لا يستطيع التفاوض. لذلك يمكن فهم تلك النظرة الساخرة وعلامات الاستغراب والتعجب التي صدرت عن رايس حين تحدث السنيورة عن مقاضاة «إسرائيل» في محكمة دولية ومطالبتها بدفع التعويضات. كذلك يمكن فهم منطق المقاومة التي رفضت تصريحات السنيورة ومشروع الحل الذي قدمه في روما.
مشروع لبنان «الدولة» الذي بدأ تأسيسه منذ توقيع «اتفاق الطائف» قوض على الأرض. ولهذا يمكن أن نفهم سبب غضب خادم الحرمين الشريفين. فهو التقط الرسالة بسرعة وعرف القصد من وراء سياسة التقويض والهدم.
الآن انشطر لبنان إلى منطقين ومن الصعب جمعهما على رغم محاولات رئيس مجلس النواب نبيه بري التوسط بينهما. لبنان بعد 12 يوليو دخل منطقة «الفوضى البناءة» وتصريح أيمن الظواهري (القاعدة) إشارة سريعة إلى تلك الأوراق المستورة التي بدأت في الانكشاف
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1421 - الخميس 27 يوليو 2006م الموافق 01 رجب 1427هـ