العدد 1420 - الأربعاء 26 يوليو 2006م الموافق 29 جمادى الآخرة 1427هـ

من القعود إلى التقاعد

بناء الدولة وصنع البحريني المنضبط (8)

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

كان مطلع السبعينات - السنوات الأولى من الاستقلال - فترة حاسمة في جملة من التغيرات التي سيكون لها تداعيات كبيرة على الوضع الديموغرافي في البلاد. فبعد أن كانت شركة النفط (بابكو) تستقطب العدد الأكبر من القوى العاملة في البحرين في حقبة ما قبل الاستقلال، إذا بحقبة الاستقلال تحول الدولة إلى أكبر مستخدم في البلاد.

وفي هذا السياق تذكر إحصاءات شركة نفط البحرين أن عدد عمال شركة النفط كان يتضاعف بصورة واضحة منذ منتصف الثلاثينات إذ بلغ عددهم في العام 1937 نحو 3350 عاملاً بينهم 2000 عامل بحريني يمثلون 59,7 في المئة من مجموع القوى العاملة آنذاك، أما في العام 1948 فبلغ عدد العمال 6078 عاملاً بينهم 4650 عاملاً بحرينياً، وفي العام 1951 أصبح عددهم 7749 عاملاً، عدد العمال البحرينيين 4937، وفي العام 1956 بلغ العدد 8785 عاملاً بينهم 5900 بحريني، وفي العام 1959 بلغ عدد عمال النفط 8911 عاملاً بينهم 6127 عاملاً بحرينياً. ثم بدأ الصعود المطرد يتضاءل شيئاً فشيئاً، إذ بلغ عدد عمال النفط البحرينيين في العام 1965 (5164) عاملاً، وانخفض إلى 4076 عاملاً في العام 1970، و3461 عاملاً في العام 1971، و3330 عاملاً في العام 1972.

صعود تدريجي

يذكر محمد الرميحي أنه «حتى العام 1959 كانت شركة نفط البحرين» هي أكبر مستخدم فردي للعمال في الجزيرة» (البحرين: مشكلات التغيير السياسي والاجتماعي، ص146). ثم بدأ الوضع يتغير على إثر صعود الحكومة إلى الواجهة كأكبر مستخدم في البلاد. يذكر أن هذا الصعود بدأ في صورة تدريجية، وقد عزز من سرعته استحداث الكثير من الوزارات والإدارات والمؤسسات الحكومية بعد الاستقلال، إضافة إلى ما عرفته البلاد من انتعاش اقتصادي واضح عكسته إحصاءات العام 1971. وعلى إثر هذا الانتعاش «ارتفع عدد مستخدمي الحكومة مقارنة بالعام 1965 ما جعل الحكومة أكبر مستخدم في البلاد» (بناء الدولة في البحرين: المهمة غير المنجزة). وتنطوي الاحصاءات الرسمية على زيادة ملحوظة في التشغيل في القطاع الحكومي، إذ كان عدد الموظفين في هذا القطاع في العام 1959 (6492) عاملاً وموظفاً، فيما ارتفع هذا العدد إلى 12570 موظفاً في العام 1968، و14608 موظفين في العام 1971، إلى أن بلغ عددهم في العام 2001 (35474) موظفاً.

تشريع جديد

وفي هذا السياق نشأت الحاجة إلى تشريع جديد لأنظمة التقاعد ونهاية الخدمة. وفي 28 يونيو/ حزيران 1975 صدر القانون رقم (13) لسنة 1975 بشأن تنظيم معاشات ومكافآت التقاعد لموظفي الحكومة والذي بدأ تطبيقه في أكتوبر/ تشرين الأول 1975.

وفي 14 مارس/ آذار 1976 صدر المرسوم بقانون رقم (11) بإصدار قانون تنظيم معاشات ومكافآت التقاعد لضباط وأفراد قوة دفاع البحرين والأمن العام. وعرفت البحرين أنظمة التقاعد في وقت مبكر، إذ كان هناك نظام الخدمة السابقة الذي بدأ العمل به قبل العام 1930، ونظام النقد الاحتياطي الذي بدأ العمل به في العام 1930، ونظام التقاعد الذي بدأ العمل به اعتباراً من يوليو/ تموز 1955.إلا أن كل هذه الأنظمة لم تكن من القوة بحيث تقوم بدور الجهاز الانضباطي الأخير كما حصل في العام 1975 أي منذ صدور قانون تنظيم معاشات ومكافآت التقاعد لموظفي الحكومة وإنشاء الهيئة العامة لصندوق التقاعد في أكتوبر العام 1975. والدليل على هذا أن عدد أصحاب المعاشات التقاعدية إبان تطبيق قانون التقاعد للعام 1975 لم يتجاوز 231 صاحب معاش، فيما أخذ هذا العدد في التزايد سنة بعد أخرى، وبالعودة إلى الإحصاءات الرسمية سنجد أن عدد المحالين إلى التقاعد لبلوغهم سن التقاعد بلغ في العام 2000 ( 158) متقاعداً، وفي العام 2001 ( 484) متقاعداً، وفي العام 2002 (1202) متقاعد، وفي العام 2003 (1333) متقاعداً. وهي أعداد ستستمر في زيادتها باطراد. ومع هذا لن يكتب لهذه الفئة أن تشكل قوة يحسب لها حساب، لا لأنها قليلة العدد، بل لأن معظمهم يشيخون بعد التقاعد مباشرة، وغالبيتهم يموتون بعد العام 65، والأهم من ذلك أن غالبيتهم يكونون مستسلمين لعمل أجهزة الانضباط والتنميط على نفوسهم وأجسامهم طوال تاريخ خدمتهم الطويلة في الوظيفة وانخراطهم المبكر في أجهزة الانضباط العمومية، الأمر الذي يعني دخولهم في شرك التزامات متحكمة لا تترك لهم إلا هامشاً محدوداً للحرية في اختيار ما يسميه فوكو «فن العيش» art of living.

مخرج لارتفاع الأجل

لم يكن التقاعد مجرد مكافأة للموظف بعد خدمته الطويلة، بل كان بالأحرى مخرجاً لأزمة ارتفاع الأجل المتوقع للحياة لدى البشر في معظم دول العالم. يذكر أن بسمارك هو أول من أسس نظام ضمان اجتماعي في أوروبا، وقرر، في هذا النظام، أن تكون سن التقاعد 65 سنة، والسبب في ذلك أنه لم يكن أحد يحيا حتى هذا العمر في ذاك العهد تقريباً. وبحسب الديموغرافي الفرنسي جين فوراستييه فإن بلوغ عمر الثانية والخمسين كان يعتبر إنجازاً في القرن الثامن عشر في أوروبا لأن قلة ضئيلة فقط من الناس كانوا يعيشون حتى هذا العمر. ولكن لما تبين أن أعداداً متزايدة من الناس يحيون حتى أعمار متقدمة، صار لا بد من التفكير في طريقة تضمن التعاقب السلمي للأجيال على الوظائف والعمل، فكان نظام التقاعد هو الحل لهذه المعضلة. وكما يذكر فرانسيس فوكوياما فإنه «لم يقرر سناً للتقاعد الإجباري إلا في نهاية القرن التاسع عشر، عندما ظهر أن أعداداً متزايدة من الناس يحيون حتى أعمار متقدمة» (نهاية الإنسان، ص105). وإذا عرفنا أن الأجل المتوقع للبحرينيين عند الميلاد كان 58 سنة في الفترة بين 1965 و1971، فلن يكون من العسير الاستنتاج أن قلة محظوظة فقط سيكتب لها أن تكون من بين المحالين إلى التقاعد لبلوغهم سن التقاعد (60 سنة للرجال، و55 سنة للنساء)، لا لأن نظام التقاعد الإجباري لم يكن يلزم الموظف بالتقاعد عند عمر 60 فحسب، بل لأنه لم يكن أحد من البحرينيين يحيا حتى عمر الستين اللهم إلا قلة قليلة ومحظوظة. وكان من الممكن أن يكون لارتفاع آجال البحرينيين المتوقعة إلى 74,5 سنة في العام 2001 آثار إيجابية لكون ذلك سيجعل الناس قادرين على العيش روتينياً وعلى العمل حتى في ستينات العمر وسبعيناته، إلا أن ما هو حاصل هو أن معظم الناس يشيخون بعد التقاعد ويموتون في عمر 65 فأكثر.

قعود فردي لا جماعي

وتاريخياً، ولما لم يكن العمر الإلزامي للتقاعد موحداً، فإن الناس كانوا يقعدون بعد عجزهم الفعلي عن العمل فرادى لا جماعات، متفرقين لا منمطين ولا موحدين. وقبل سبعة عقود لم تعرف البحرين أنظمة تقاعد رسمية ولا قوانين تحدد العمر الإلزامي للتقاعد، ومع هذا كان تعاقب الناس على العمل/الوظائف يجري من دون عوائق، بل كان يجري بطريقة طوعية وفي صورة أشبه بالتبرع الطوعي إذ يتنازل الكبير في السن عن عمله بعد عجزه، ويهديه إلى المقبلين الجدد. وحين يشعر التاجر أو البحار أو المزارع أو العامل الحر بالعجز فإنه يقعد ويترك العمل تدريجياً لأبنائه أو أحفاده. ولهذا كان التقاعد عبارة عن انسحاب طوعي وتدريجي عن العمل، وهو انسحاب نابع من شعور الكبير في السن بأنه بات عاجزاً فعلياً لا قانونياً عن العمل، ويتم ذلك برغبة متبادلة من الطرفين - الآباء/ القاعدين والأبناء/ الواقفين. ولهذا فنحن إذاً أمام حال حقيقية من القعود، أما ما جرى بعد صدور قانون التقاعد للعام 1975 فتسميته بالتقاعد تسمية مجازية، لأن ما يحصل هو، على وجه الدقة، «إقعاد» لا قعود ولا تقاعد متبادل، وفي هذا الإقعاد لا يتطابق بالضرورة العجز الفعلي (البدني والنفسي) مع العجز/القعود القانوني حين يبلغ الرجل 60 عاماً، والمرأة 55 عاماً.

قعود اختياري

وعلى هذا، كان الناس يقعدون عن العمل وقت ما يريدون، وهذا الوقت لا تحدده لا ضوابط ولا لوائح ولا قوانين، وهو لا يخضع لا لمعيار العمر ولا لسنوات العمل، بل يكون في الوقت الذي يقرر فيه المرء أنه فعلاً عاجز ويرغب في القعود. ولهذا السبب لم يكن هناك تجمع مدني موحد لا يجمع بين أفراده من جامع سوى أنهم أحيلوا إلى التقاعد في وقت واحد أو متقارب. فآنذاك كان كل شخص يقعد برضاه وبقرار شخصي منه، وفي معظم الحالات فإن الموت يعاجله حتى قبل أن يتخذ هذا القرار. ولكن بعد صدور القانون في العام 1975 صار العمر الإلزامي للتقاعد موحداً، وصار من المتوقع أن تظهر فئة جديدة من المواطنين اسمهم «المتقاعدون»، أو المقعدون إذا شئنا الدقة، وصار من الممكن أن يكون لهذه الفئة من الناس تجمعاتهم المدنية الخاصة بهم من جمعيات ونواد، وكذلك صار من الممكن رؤية هؤلاء موزعين جماعات جماعات في المقاهي الشعبية وفي المجالس و«البسطات» داخل الأحياء الفقيرة والمتوسطة.

جبهة يتوددها السياسيون

وبحسب توقع فوكوياما فإن كبار السن سيظهرون «كجبهة من أهم الجبهات التي يتودد إليها السياسيون في القرن الواحد والعشرين» (نهاية الإنسان، ص102)؛ وذلك لأن هذه الفئة ستكون بحجم كبير يسمح لها تغيير موازين القوى الانتخابية، ثم إنها ستكون بخير وعافية حتى سبعينات العمر وثمانيناته وخصوصاً إذا بلغ منوال العمر 60 سنة في أوروبا واليابان. وفي الولايات الأميركية يتوقع أن تكون نسبة من هم في عمر 65 فأكثر حوالي في المئة في العام 2030 أي إنهم سيكونون القوة الانتخابية الأكبر والأهم. أما في البحرين - والحال ينسحب على بقية الدول النامية - فلا يتوقع، لا في المدى القريب ولا البعيد، أن يكون لكبار السن ممن هم في عمر 65 فأكثر أي قوة تجبر الآخرين على أن يتوددوا لهم؛ لأنهم لا يشكلون سوى 3,7 في المئة من مجموع البحرينيين، و3,1 في المئة من مجموع السكان، ولأنهم عاجزون ويموتون بصورة مطردة بعد عمر 65. ما يعني أن علاقة كبار السن بموازين القوى السياسية ستكون علاقة انفعال سلبي، فهم دائماً يتلقون بسلبية كل ما يجري حولهم، وهم دائماً في الموقف الذي ينتظر تودد الآخرين وعطفهم وشفقتهم ومبادراتهم.

أما ما يعنيه هذا بالنسبة إلى أجهزة الانضباط العمومية فهو أمر يبعث برسائل إيجابية على أن دائرة الأجهزة الانضباطية وتكنولوجيات الانضباط اكتملت. وصار بإمكانها أن تشتغل على الأفراد بصورة روتينية، وأن تنتج، بكل يسر، أفراداً طيعين تسهل قيادتهم، ويسهل استخدامهم والاستفادة القصوى منهم

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 1420 - الأربعاء 26 يوليو 2006م الموافق 29 جمادى الآخرة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً