كان يدرك أن نروسة الجنوب الحر تستحق «الموت»، وأن جنوبه المعطر بدماء الشهداء قبله لما يكتفي. كان يمشي لصباحه الأخير مشية العارفين بـ «غزل» الأرض، وكان يعرف أعداد الشجيرات التي تحيط به، ويحفظ الطرق المؤدية للموت عن ظهر قلب. يعرف أنها أرضه، وأن «الموت» هو أقل حقوقه فيها.
وسيم طالب نجدي (24 ربيعاً لبنانياً)، والمكان هو بلدة «صيرفة» بالجنوب، وفي تمام الساعة التاسعة صباحاً إلا موت، خرجت أنفاسه الأخيرة، فنعته المقاومة، بينما كانت الأرض تستبشر به. والده طالب نجدي، ووالدته السيدة فاطمة عبدالله شريف، وأخواه علي وحسن، وأختاه المثكولتان وصلتهما أنباء استشهاده فكانت الأنفس الهادئة مقرة بالقضاء. عاش الحبيب وسيم منذ العام 1982 بين أعينهم، ولد في حرب، وقضى في حرب لا تختلف عن تلك التي ولد فيها، سوى أن حرقة الأربع وعشرين ربيعاً الفاصلة بينهما عصية على التحمل.
القريبون من هذا الشهيد يعرفون أنه شاب يمتلك إيماناً خاصاً، كان الشهيد ثابت الموقف في قناعاته، وحين أتى أوان القطف كان له أن يستكمل قصة عمره القصير باستكمال قناعاته الأخيرة، فكانت الأرض اللبنانية كلها مقبرة له، وكانت الأنفس المتعبة وطناً جديداً له، أما الدموع الساخنة على خد والدته والقريبين منه لم تكن أكثر مما تعودت أن ترتوي به قرى الجنوب حباً، فكل الحروب «لا حب» فيها، إلا جنوب لبنان، الحرب فيه معنونة بـ «الحب».
يا وسيم... ليس يوم افتقادك ما يؤلم، فلقد مت سعيداً مؤمناً بما رهنت حياتك فيه، ولا يؤلمنا ذلك الغول الإسرائيلي الذي يهتك الأرض، ويحرق المنازل، ويقتل الأطفال. ولا يؤلمنا لبنان إذ تقطعه نصول التآمر الدولي، فأرضك رافقتها الدماء وعقدت معها معاهدة الارتباط الأبدية، ومن حمرة دمك القاني تلونت مواثيق المعاهدة.
وحدها طعنات الظهر يا وسيم تؤلم، وحدها الكلمات المخنوقة بالطائفية والسلفية الجديدة ما يؤلم، بعدد سنوات ربيعك يا وسيم طعنات هؤلاء تؤلم. 24 طعنة في الظهر لا ترحم، لا تلين، لا تفهم، لا ترق، ولا تتوقف عن الطعن.
أنصال طرفها الأول في التاريخ، يختبئ خلف رعونة الإنسان العربي وبدويته، والعمق الآخر في ظهرك، تفقد ظهرك يا صاحبي في قبرك الصغير، ستحس به. أخشى أن تنسيك هذه الطعنات نشوتك التي أنت فيه، دعه لا تحاول ملامسته، فالأمراض السارية في أمتك يا عزيزي لن تزول، تلمس صدرك النظيف، وتخضب بدمك الأحمر الذي تحبه
إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"العدد 1419 - الثلثاء 25 يوليو 2006م الموافق 28 جمادى الآخرة 1427هـ