العدد 1419 - الثلثاء 25 يوليو 2006م الموافق 28 جمادى الآخرة 1427هـ

ماذا بعد غضب رايس؟

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

خرجت وزيرة الخارجية الأميركية كوندليزا رايس غاضبة من تلك الزيارة الخاطفة التي قامت بها أمس الأول إلى بيروت المحطمة. فهذه الوزيرة حملت معها مشروع استسلام للدولة اللبنانية ظناً منها أن حرب التدمير الشاملة التي شنتها «إسرائيل» كافية لتوجيه رسالة قوية بهذا الشأن. فالزيارة إذاً كانت بهدف جس نبض الدولة وفحص مدى استعدادها للتجاوب مع الشروط الإسرائيلية واكتشفت بعد ساعتين أن «طبخة» الحل لم تنضج بعد... ولبنان بحاجة إلى مزيد من الضربات. وهذا ما أشارت إلى احتمال حصوله بعد زيارتها تل أبيب واجتماعها مع حكومة إيهود أولمرت.

الموقف اللبناني الرسمي (رئيس مجلس النواب ورئيس الحكومة) اربك الوزيرة الأميركية. فهي جاءت على انقاض مدينة، ودولة مقوضة ومشلولة الإرادة، وحكومة تحولت إلى هيئة إغاثة لتأخذ من الاشلاء وثيقة استسلام واذعان، ولكنها اندهشت من «الدولة» حين رفضت اقتراحاتها وقدمت لها اقتراحات بديلة.

ماذا حملت رايس معها من أفكار؟ الوزيرة قدمت «أجندة» موزعة على سلسلة خطوات: وقف النار، عودة النازحين إلى قرى الجنوب، إنشاء منطقة عازلة خالية من السلاح إلى نهر الليطاني، نشر الجيش اللبناني في الجنوب، وتعزيز قوات الطوارئ الدولية وتوسيع صلاحياتها. وعندما سألت الدولة الوزيرة عن تبادل الأسرى وعدت ببحث الموضوع بعد تطبيق الاتفاق. وردت الدولة (المقوضة المشلولة) على «أجندة» رايس باقتراحات مضادة اشتملت على: وقف إطلاق النار، عودة النازحين إلى قراهم، تبادل الأسرى، الانسحاب من مزارع شبعا، تقديم خريطة حقول الالغام المزروعة في الجنوب، ونشر الجيش اللبناني على الحدود الدولية.

استغربت رايس هذا الموقف المكابر بعد 14 يوماً من الدمار واقتلاع السكان وتدمير البنية التحتية للدولة. وبعد نقاش وافقت على إدراج تبادل الأسرى ومزارع شبعا وخريطة الالغام كبند ثالث شرط أن توافق الدولة على كامل الأجندة. وأيضاً رفضت الدولة واقترحت تقسيم «السلة» الأميركية - اللبنانية على مرحلتين: الأولى وقف النار، عودة النازحين، الأسرى والمزارع والخريطة، ونشر الجيش. والثانية تبدأ المفاوضات لتقرير مصير المقاومة والاتفاق على منطقة عازلة وتعزيز صلاحيات قوات الطوارئ الدولية.

غضبت رايس من عناد «دولة» قوضتها حرب دمار شامل. فالدولة ضعيفة ومشلولة، والمحور الثنائي السعودي - المصري جرى تشطيبه وبات على قاب قوسين للخروج من المعادلة اللبنانية، وقوى «14 آذار» معزولة وفي حال يرثى لها فهي لا تعرف ماذا تريد ولا تريد ماذا تعرف. فهذه القوى تلقت لكمة أميركية بقفازات إسرائيلية من العيار الثقيل وأصيبت بعطب عقلي منع عنها التحليل والتفكير.

وجدت رايس في زيارتها الخاطفة إلى بيروت أن الحرب لم تثمر حتى الآن وانه لم يحن بعد حصاد نتائج الصواريخ والقذائف والقنابل التي أطلقتها «إسرائيل» على هذا البلد الصغير والمسكين. وغادرت الوزيرة لبنان غاضبة وغير مرتاحة من نتائج زيارتها. وفي تل أبيب نفت أنها أعطت حكومة أولمرت «مهلة أسبوع إضافي» لاستكمال حرب التقويض للدولة والمقاومة. وكلام رايس يمكن أن يفسر على أكثر من معنى فهي إما اقتنعت أن الحرب فشلت وعليها الدخول في المفاوضات واما أن تكون قد اقتنعت بأن الحرب مفتوحة ولا يمكن أن تحقق غاياتها المرجوة في أسبوع إضافي. التصريح يمكن أن يفهم على أكثر من مستوى ويرجح أنها أعطت «الضوء الأخضر» للآلة الإسرائيلية بالعودة إلى الضغط على حزب الله في ساحة حرب يحتمل أن تكون أكثر عنفاً وقسوة من السابق.

صمود حزب الله

مضى 15 يوماً على الحرب الأميركية - الصهيونية على لبنان، وحتى الآن لايزال يقاتل حزب الله وحده في جبهة الجنوب. فالحزب بإمكاناته المتواضعة يواجه رابع قوة عسكرية في العالم. وهذه القوة سبق أن هزمت أكبر ثلاثة جيوش عربية في حرب يونيو/ حزيران 1967. آنذاك نجحت الدولة العبرية في خوض ثلاث حروب على ثلاث جبهات واستطاعت على مدى ستة أيام في دفع الجيش المصري إلى وراء قناة السويس واحتلت غزة سيناء، ودفعت الجيش الأردني وراء النهر واحتلت القدس والضفة الغربية، ودفعت الجيش السوري (الذي نفذ خطة الانسحاب العشوائي) وراء مدينة القنيطرة واحتلت هضبة الجولان ومزارع شبعا. في أقل من أسبوع نجحت «إسرائيل» في ايقاع الهزيمة في ثلاثة جيوش عربية بينما اليوم فهي دخلت أسبوعها الثالث في قتال حزب الله وفشلت في تحقيق اختراقات جدية، إذ لاتزال معارك الكر والفر تدور في «قشرة» على الحدود الجنوبية.

هذه الحرب المفتوحة التي تشنها «إسرائيل» بدعم أميركي وغطاء دولي تكشف بوضوح مدى ضعف الدولة العبرية. ولكن هذا الضعف استقوى بالمخاوف العربية وجزع الأنظمة من اسطورة «الجيش الذي لا يقهر».

الضعف العربي لا يقتصر على المخاوف، ولكنه يعتمد أيضاً على «الانتهازية». فهناك بعض القوى العربية تستغل صمود حزب الله وتضحياته وبطولاته لإعادة توظيفها خدمة لتجديد دور إقليمي أو إعادة إنتاج علاقة اهتزت بعد حصول تلك المتغيرات الدولية في المنطقة.

رموز قوى «8 آذار» مثلاً تتزاحم على استديوهات التلفزة ومحطات الفضائيات للسخرية من الدولة المقوضة والشماتة من المحور السعودي - المصري والمزايدة في البطولات الوهمية والنفخ في نار الفتنة المذهبية - الطائفية. فهذه الرموز تظن بأن ورقتها ربحت الرهان وانها عائدة إلى المواقع الوزارية وان هناك فرصة لتحسين شروط التفاوض مع الحكومة وقوى «14 آذار». وترى هذه الرموز الفضائية أن تضحيات حزب الله وبطولاته وبسالة رجاله وقيادته تشكل فرصة ذهبية لإعادة إنتاج صيغة تسوية تطيح بتوازن الكيان السياسي (الهش أصلاً). وهي لا تتردد في السخرية والشماتة من اقتلاع قرابة مليون إنسان من منازلهم ومناطقهم وبيوتهم واندفاعهم شمالاً إلى بيروت ومناطق الجبل وتحويل أحزاب 14 اذار (المقوضة والمشلولة والعاجزة والمعزولة) إلى هيئات إغاثة ومنظمات لانقاذ الأسر من كارثة غذائية وصحية.

رموز هذه القوى تتفاخر بالمصائب التي حلت بالشعب المسكين وتحاول قدر الإمكان استغلال الفرص للعبث بالتوازنات ودفع الناس إلى اليأس من استمرار الرهان على الكيان في صيغته الجغرافية الراهنة. وهذا الأمر يمكن قراءة تفصيلاته في الكثير من الخطابات التلفزيونية التي تستفيد من الانهيار العام وتقوض الدولة لتمرير أفكار الهدف منها الايقاع بين الناس وهز الثقة والوحدة الداخلية واشعال روح الكراهية المذهبية والطائفية.

غموض المواقف السورية

لاشك في أن تلك الرموز تستفيد كثيراً من ضعف الدولة المقوضة والبهدلة التي تلقتها قوى «14 آذار» من اللكمة الأميركية - الإسرائيلية، ولكنها أيضاً تنتهز فرصة غموض المواقف السورية لتمرير طموحات شخصية. فالمواقف السورية حتى الان غير واضحة وهذا ما افسح المجال للتأويلات والتفسيرات المتناقضة. وأهم قراءة في هذا الفضاء المشوش بالصواريخ والقنابل الإسرائيلية يمكن التقاط عناصرها من تلك التسريبات والتحليلات الصحافية التي تتحدث عن حال استرخاء أو موقف انتظاري سوري. فدمشق كما يبدو تنتظر ذاك الاتصال من الولايات المتحدة وطلب مساعدتها في انقاذ حليفها «الإسرائيلي» من الورطة التي سقط فيها.

الحديث عن انتظار الاتصال الهاتفي متعدد الوجوه ومتشعب المصادر والاتجاهات، ولكنه حتى الآن غير ثابت رسمياً. فهناك من يقول إن «إسرائيل» موافقة من حيث المبدأ على إعادة إنتاج تسوية 1976 مع إجراء تعديلات عليها تتناسب مع المتغيرات الدولية والإقليمية. وحكومة إيهود أولمرت كما يبدو لا تمانع في إعطاء دور للوكالة السورية في لبنان بشرط أن يتوافق عليه دولياً وإقليمياً. وتل أبيب في هذا الصدد بحاجة إلى ضمانات تمنع تكرار تلك الأخطاء والهفوات التي جرت على الساحة اللبنانية بعد العام .1976 ويبدو أن أولمرت لا يمانع في إعادة تجديد الدور الإقليمي لسورية في لبنان على أن يقضي الاتفاق بإعطاء الجنوب منطقة تموضع ونفوذ ومرور للقوات الإسرائيلية تحت غطاء دولي مقابل أن يعطى البقاع وبعض الشمال منطقة تموضع ونفوذ ومرور للقوات السورية بهدف ضبط الوضع الأمني هناك. فتل أبيب لا تريد إعادة الاحتلال بل التموضع والتدخل عند الحاجة حتى لا يتكرر ذاك السيناريو الذي كبدها الخسائر وبهدل جيشها «الذي لا يقهر». وفي المقابل لا تمانع في إعطاء فرصة لإعادة ذاك التوافق الإقليمي الذي ضبط الاستقرار الأمني في لبنان.

الولايات المتحدة تبدو مترددة حتى الآن. ويستدل على هذا الأمر تلك التصريحات المتعارضة التي تصدر عن الرئيس الأميركي بشأن سورية ودورها. فمرة يحمل جورج بوش سورية وإيران مسئولية الحرب على لبنان ومرة يطالبها بلعب دور في التأثير على حزب الله. هذا التعارض في المواقف يكشف عن وجود اختلاف في توجهات الإدارة الأميركية بين تيار يريد دفع الحرب إلى خارج الحدود اللبنانية وتيار يريد ضبط الحرب في الساحة اللبنانية وبالعودة إلى إطار قريب من ذاك الذي تم التوصل إليه في العام 1976.

دمشق حتى الآن غير واضحة في مواقفها، فهي أبدت خشيتها من امتداد الحرب وأعلنت أنها مستعدة ميدانياً إذا وصلت نيرانها إلى حدودها مع لبنان (السلطان يعقوب، والمصنع) وهي أرسلت إشارات تضمنت استعدادها للتدخل والمساعدة في ضبط الوضع على غرار ما حصل قبل ثلاثة عقود.

الولايات المتحدة حتى الآن لم تتصل، ولكنها كما يبدو كلفت الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان بإجراء فحص مختبري لتلك الاستعدادات في المساعدة. ويقال في هذا الصدد ان عنان موافق من حيث المبدأ على إعطاء دور لسورية في ضبط حزب الله وهو أجرى أكثر من اتصال هاتفي مع الرئيس السوري وبحث معه هذا الاحتمال. وحتى الآن لم تصدر إشارات رسمية واضحة بهذا الشأن لا من نيويورك ولا واشنطن ولا تل أبيب ولا دمشق. فكل ما تسرب من كلام هو أقرب إلى التكهنات.

الغموض إذاً هو سيد المواقف السورية. ولكن المرجح الآن بعد فشل زيارة رايس إلى بيروت ورفض الدولة اللبنانية (المقوضة والمشلولة) التجاوب مع اقتراحاتها أن تبحث عن «بديل» إقليمي يوافق على تطبيق تلك «الأجندة». وهذا «البديل» يتوقع أن تتصل به واشنطن قريباً. ولكن الاتصال القريب لن يتم سريعاً... أي قبل انتهاء تلك المهلة الإضافية التي أعطتها رايس لحكومة أولمرت. والمهلة يرجح أن تكون قوية وقاسية على لبنان

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1419 - الثلثاء 25 يوليو 2006م الموافق 28 جمادى الآخرة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً