قبل الهجرة النبوية الشريفة بثماني سنين (614م) وقعت حرب ضروس بين الفرس بقيادة الإمبراطور هيراكليوس (هرقل)، بين أذرعات وبصرى (في سورية الحديثة)، قبل الهجرة بخمس سنين، وانتصر فيها الفرس، بعد أن استولوا على أنطاكية، أكبر مدن أقاليم الامبراطورية الشرقية، ثم سيطروا على دمشق، وحاصروا بيت المقدس حتى سقطت بأيديهم. فلما بلغ الخبر مكة فرح المشركون وقالوا للمسلمين: «سنغلبكم كما غلبت فارس الروم». ونقل ابن كثير عن ابن عباس: «كان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم لأنهم أصحاب أوثان، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس، لأنهم كانوا من أهل الكتاب».
في تلك الفترة، نزلت سورة «الروم»، فاهتز لها المسلمون طرباً وفرحاً، إذ كانت تبشّرهم بانتصار الروم في أقل من عشر سنين. ولمعرفة خلفية هذا الفرح، كان المسلمون يتعرضون للقتل والتعذيب على أيدي وثنيي قريش، إذ كانوا يضعون الأحجار الكبيرة على صدورهم وبطونهم في عز الظهيرة تحت رمضاء مكة.
في العام 622م (العام الهجري الأول،) كان هرقل قد استكمل عدّة الحرب، واختار أرمينيا أرضاً للمعركة ليمحو عار الهزيمة، وهكذا تحقّق الوعد القرآني الحق، وفرح المسلمون بنصر الله، لأن الروم أهل كتاب سماوي، وهم أقرب إليهم من الفرس المجوس.
المسلمون الأوائل كانوا بشراً طبيعيين، يتفاعلون مع حوادث العالم، وكان لهم أفقٌ يسع الدنيا كلها، والسورة الكريمة رسمت للأجيال لوحةً دقيقةً للشعور البشري السوي تجاه الحوادث التاريخية، ولم يعطِ القرآن أي انتقادٍ أو توبيخٍ أو إشارةٍ سلبيةٍ في هذا الاتجاه، بل بشّرهم بانتصار الروم القريب.
مثل هذا الفرح أمرٌ طبيعي، فكلما اتسعت دائرة المشتركات مع الأطراف البشرية الأخرى، وكلما اتسع أفق الإنسان في نظرته إلى العالم، وخرج من شرنقته المذهبية أو الطائفية، كلما كان تفاعله مع العالم من حوله أكبر. أما لو كان المسلمون حينها يفكّرون كما يفكر بعض «الخلف» من مسلمي القرن الحادي والعشرين، لكان مؤكداً أنهم سيفرحون لانتصار الفرس واندحار الروم! فاليوم، وبينما تحرق «إسرائيل» المدن اللبنانية على رؤوس أهلها، بعد أن انتهت من إحراق مدن الضفة والقطاع، نرى بعض هذا «الخلف» يحذّر المسلمين من الدعاء لمن يقاتل «إسرائيل»، وبعضهم يحاول أن يمنع المسلمين من الفرح لما يلحقه المجاهدون اللبنانيون من أذى بالصهاينة المحتلين، بل ويكتب أحدهم محذّراً من «الانجراف مع مشاعر الفرح» عن التمسك بـ «هويته وعقيدته ورايته النقية»، التي لن ينجو من هذه الأمة غيرها، فالجنة محجوزةٌ له وحده ولجماعته ولأعضاء جمعيته!
أحد الأخوة العائدين من مصر، نقل كيف كانت مشاعر الشعب مع هؤلاء المقاتلين، على خلاف المواقف الرسمية العربية المكشوفة، التي لم تجد لها من يساندها من بين مليار مسلم من أتباع محمد (ص) غير عتاة الطائفيين. وأرجع هذا الموقف إلى عوامل الحقد والحسد، فضلاً عن «الأوامر السلطانية» ومحاولة إرضاء «أولياء النعم».
المسلمون الأوائل يفرحون لنصر النصارى، وبعض مسلمي هذه الأيام يمنعون المسلمين من الفرح بانجازات المسلمين العسكرية، ويتمنون أن تنتصر عليهم «إسرائيل»! نعوذ بالله من الفتن والمحن وقلة العقل في هذا الزمن، وصدق رسول الله (ص) إذ يقول: «إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم، فعليكم بالقرآن، لأنه صادقٌ مصدّق...»، أما هؤلاء الخطباء و«الأئمة» والمفتون بغير علم ولا وعي ولا بصيرة... فيحرّمون الفرح القرآني المباح
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1418 - الإثنين 24 يوليو 2006م الموافق 27 جمادى الآخرة 1427هـ