ما هو رأس المال لكل مجتمع وكل أمة حية؟ ما الذي يستحق أن ننتحب عليه لو تضرر؟ هل صحيح أن ما هو معروف بالبنية التحتية من جسور ومطارات ومؤسسات ومبان هو أثمن ما في بلداننا ومجتمعاتنا وأمتنا؟
إذاً أين العزة والكرامة والشموخ؟ ولماذا يتحسر بعض اللبنانيين في منعطفاتهم ومنعطفات أمتهم الخطرة على موسم لبنان السياحي وعلى ما يخسره بلدهم من الدولارات يومياً؟ هل اعتقدوا يوما أنها قادرة على حراسة نفسها وعلى حراستهم من ورائها؟
كل البنية التحتية التي يتغنى بها فريق من اللبنانيين كانت ومنذ اليوم الأول لبنائها أو ما سمي بإعادة إعمارها قابلة للكسر والهدم والخراب، وقد كسرت وحطمت فعلاً في أقل من سبعة أيام انهالت فيها صواريخ الغدر والخيانة والاحتلال.
في الطرف الآخر وعلى النقيض من ذلك تماماً، بقيت البنية التحتية التي بنتها المقاومة في نفوس الناس وأبناء شعبها عصية على الهدم والكسر، إنها ليست مجموعة من الجسور الإسمنتية المترابطة بأسياخ الحديد، كلا بل هي جذور من الكرامة الراسخة، وروح من العزة التي تجري في الإنسان مجرى الدم في العروق، فتغذي إرادته، وترفع مستوى التحدي في نفسه، وحينها يستحيل أن يقهر.
لو رجعنا إلى الوراء قليلاً، حين أعاد اللبنانيون إعمار بلادهم لرأينا أنه لم يكن هناك انفصال بين تعمير الجسور ومحطات الكهرباء وبين الكرامة والعزة التي تحميها، فكانت الجسور تبنى والكرامة في مواقعها تترسخ ، وكانت المؤسسات تعلوا وعزة المجتمع كله في ساحات الوغى تحرسها، لكن منذ مقتل الرئيس الراحل رفيق الحريري، أديرت البوصلة بشكل فرق القوتين عن بعضهما، وجعل بينهما جفاء كثيراً، ولأن العدو كان يرصد عن قرب تلك الجفوة بين القوتين استفرد بتفتيت تلك البنية التحتية التي حاولت الذهاب بعيداً عن العزة والكرامة والبندقية التي تحميها، لقد وجد العدو فرصته لينتقم حين نشب الخلاف بين الأشقاء وأبناء الوطن، لذلك أقدم يدمر ما بناه الشعب بأسره.
فبعد أن غاب الرجال الحريصون على مصلحة بلدهم وشعبهم وأمتهم خلف من بعدهم خلف شغلتهم الضغائن والأحقاد، فتشاغلوا بها عن عدو يقعد لهم بالمرصاد، ويأتيهم من فوقهم ومن تحتهم وعن يمينهم وشمالهم، فأضاعوا الهدف، وغفلوا الحارس الفعلي والحقيقي لكل الإنجاز والاعمار الذي شهده لبنان.
المعادلة لم تكن على غير ذلك في فلسطين، فقد عُمِّر المطار أيام الرئيس الراحل ياسر عرفات، وبنيت المؤسسات وشرعنت أجهزة الدولة، بما في ذلك جهاز الأمن الوقائي الفلسطيني وجهاز الشرطة، حينها كان تصفيق العالم عالياً ومدوياً، حتى عربياً فقد كان ذلك يعني بناء دولة فلسطين، ذات السيادة والمؤسسات والإدارات.
لم تترك الأيام متسعاً من الوقت كي تبدد الأحلام الكارتونية، بل تعجلت واستعجلت وهي تبدد ذلك الوهم، وتلك الأحلام الغبية قبل أن تعشعش في النفوس، فأعطت آلة الحرب العدوانية الإسرائيلية إشارة الغدر، ليستيقظ الطرف الآخر من سباته وأحلامه الوردية التي بناها على نسيج العنكبوت الواهن.
الآن يمكنك أيها القارئ الكريم أن تشير بأصبعك إلى بعض المواقع في فلسطين وتقول: كانت هنا مؤسسات للدولة الفلسطينية، وكان هناك مطار صغير، وكان وكان وكان إلى أن تصل إلى ما يقصف ويدمر الآن، أمام أعيننا وتحت نظر العالم المتفرج وسمعه.
مع كل ذلك يبقى في الشعب الفلسطيني ما لم ولن تستطيع وسائل الدمار الإسرائيلية هزيمته أو النيل منه أو الإجهاز عليه، وستعلن طائرات (ب 16 وجميع عائلتها وسلالتها من الطائرات) بعد حين (ليس ببعيد) فشلها وخزيها وخساءتها في تحقيق أي انتصار يذكر أو يشار إليه، نعم ستعلن ذلك وشعوب الأرض تسمع، ومراقبوها يوثقون.
ذلك تماماً ما تعنيه روح العزة والكرامة التي ترويها دماء الشهداء والأبطال على امتداد ساحات الصراع المشتعلة والمفتوحة مع أعداء الأمة.
مع كل ما يتركه الوضع القائم والاعتداءات الشرسة والجرائم المتواصلة (التي لا مثيل لها في التاريخ الحديث) على البراءة والإنسانية، ومع كل ما تتجرعه النفس من ألم وغصة، فإن الأمل بالله راسخ وقوي، والمهم هو أن نفكر ونخطط لما يجب أن نعمر في نفوسنا وأرواحنا قبل أن نخطط لتعمير الأرض ومد الجسور بين مدنها، كي لا نسرع للهلع والبكاء عليها حين تدمر وتركع نحو الأرض.
إنها الأولوية التي يجب أن تثبت في النفوس، والمعادلة التي ينبغي أن تتضح بين البناء والكرامة، باعتبار الأخيرة هي الحارس الحقيقي لكل إعمار وتأسيس تبنيه الشعوب على ترابها.
إنني أتأمل أن تنتج الأوضاع الراهنة أمرين مهمين اثنين:
الأول: إعادة إعمار روح العزة والكرامة وترميمها وصيانتها وتجديد حيويتها، لتبقى في عنفوانها دائما، من دون أن يأخذ الزمن منها مأخذه، فأمتنا العربية والإسلامية مازالت بحاجة الى هذه الروح.
الثاني: أن تتيح هذه الأجواء غذاء روحياً مناسباً للأجيال الجديدة التي سمعت عن عنجهية أعدائها، لكنها لم تشهدها مباشرة ولم تعاصر أحداثها.
من الطبيعي أن تشيخ الأجيال في كل أمة، وعادة ما يكون هناك انقطاع بين روح الجيل السالف والجيل اللاحق، ربما لتغير الظروف أو لتطور الحياة أو لحب الدعة والاستقرار أو لحلول قيم أخرى تتباين وتختلف مع القيم السابقة، لكن وعلى كل تقدير تبقى القيم والمثل التي يمكنها أن تمدنا بعطائها وفاعليتها إلى حقب أخرى مطلباً لا يساوم عليه العقلاء ولا يستبدله النجباء بالوهم والهوان.
ضمن هذه الروح والكرامة لا يهزم الإنسان ولا تهزم الأمم، ولا يداس على كرامتها، ولا تهان أبداً، نعم قد تتألم وتجري المعادلة على الأرض في غير مصلحتها (لا قدر الله) لكنها لا تستسلم ولا تذل... فهيهات من الكرماء الذلة
إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"العدد 1417 - الأحد 23 يوليو 2006م الموافق 26 جمادى الآخرة 1427هـ