تحتفل اليوم جمهورية مصر العربية والعالم العربي أجمع بالعيد الرابع والخمسين لثورة 23 يوليو التي كانت علامة فاصلة بين عصرين، عصر الاحتلال ومجتمع النصف في المئة من جانب، وعصر الاستقلال وبناء الدولة الوطنية ومجتمع العدالة الاجتماعية من جانب آخر.
وعلى رغم أن ثورة 23 يوليو كانت أوفر الثورات العربية حظاً في الدراسة وكان زعيمها جمال عبدالناصر من أكثر القيادات العربية شعبية، فإن ذلك لم يحصن الثورة ضد الخلاف بشأنها: هل كانت ثورة بكل ما تحمله الكلمة من معان، أم كانت مجرد انقلاب قاده بعض الضباط المتحمسين، وهل نجحت فيما بعد - سواء أكانت ثورة أم انقلاباً - في تحقيق ما قامت به من أجله فعلاً، أم أنها ساهمت - ومن دون وعي - في إجهاض الحال الثورية التي اكتسحت مصر في تلك الفترة؟
وعلى رغم هذه الخلافات بين مؤيدي الثورة ومعارضيها فإن الجميع اعترف بأهمية الثورة في تاريخ مصر وتاريخ الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، كما اعترف الجميع بأن هذه الثورة كانت ملهمة لغيرها من ثورات العالم الثالث الذي ضم آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية في ذلك الحين.
كذلك، فإن هذه الاختلافات لم يكن لها أدنى تأثير أو انعكاس على الهوية العربية لثورة يوليو، كما لم يكن لها أدنى انعكاس على التزاماتها العربية عبر مسيرتها لمدة تزيد على نصف القرن، فقد كانت ثورة يوليو صاحبة مشروع وطني وقومي غيّر من المفاهيم السائدة وغيّر من توازن القوى في المنطقة العربية وساهم في الإسراع في غروب شمس الإمبراطورية البريطانية.
ولتقييم ثورة يوليو اليوم قد يكون من المفيد إليها باعتبارها حلقة في سلسلة الثورات التي شهدتها مصر بدءاً من الثورة العربية، ومروراً بثورة 1919، وانتهاءً بثورة يوليو 1952 والتي استهدفت جميعها التعبير عن المطالب الوطنية المصرية والمتمثلة في تحقيق الاستقلال الذي يجسد جوهر المشروع القومي لثورة يوليو، باعتبار أنه الخطوة الأولى نحو التنمية والبناء والوحدة.
لذلك، لم يكن غريباً أن يحدد قائد الثورة ومفجرها الرئيس الراحل جمال عبدالناصر أولويات مصر العام 1954 في مؤلفه «فلسفة الثورة» في ثلاث دوائر، هي: العربية والإفريقية والإسلامية، ليعكس بذلك عدة حقائق موضوعية تاريخية، وحضارية واستراتيجية راسخة فرضتها ثوابت الجغرافيا ومتغيرات التاريخ ولتعبّر عن مصالح حيوية ومصيرية مشتركة لطرفي المعادلة: مصر من جانب، والعالم العربي من جانب آخر.
فانتماء مصر التاريخي والجغرافي والحضاري إلى الأمة العربية امتداد الوطن العربي من الخليج إلى المحيط أول الثوابت في هوية الإنسان المصري، ومقومات وجوده منذ فجر التاريخ، فإذا كانت مصر فرعونية الجد - كما يحلو للبعض أن يؤكد - فهي عربية الأب وكل من الجد والأب ينتمي إلى أصل عربي مشترك كما تؤكد وشواهد الآثار المصرية الباقية إلى يومنا هذا وروايات التاريخ.
ومن هنا كان تأكيد الثورة أن مصر عربية الجذور والقومية والخصائص، فقد تبلورت هوية الإنسان المصري حين عرف عروبته وأصالته فيها، وحين أدرك أن أجداده الذين شيّدوا أول حضارة إنسانية متكاملة بعناصرها ومعتقداتها وثقافتها في وادي النيل هم عرب وفدوا إلى مصر منذ آلاف السنين على صورة موجات بشرية متواصلة كفلت لمصر ومعها أرض الوطن العربي دماء عربية طاهرة منذ أقدم العصور ترجع إلى العام 5291 قبل الميلاد.
دعم تلك الروابط التاريخية البشرية منذ أقدم العصور صلة النسب التي قامت بين مصر وأهلها، وكل من نبي الله وخليله سيدنا إبراهيم (ع) أبوالأنبياء، وكذلك الرسول الكريم محمد بن عبدالله (ص) فقد تزوج سيدنا إبراهيم (ع) بالسيدة هاجر المصرية وهي من بنات سيناء من قرية يشهد اسمها على عروبة مصر منذ تلك الفترة المبكرة من التاريخ ألا وهي قرية «أم العرب» التي تقع إلى الشرق من بورسعيد الخالدة، وتدعمت صلة النسب هذه بين المصريين والأرومة الأولى للعروبة عندما أنجب الرسول الكريم سيدنا محمد (ص) ولده إبراهيم من السيدة ماريا القبطية وهي إحدى بنات مصر من قرية «حفن» بمحافظة المنيا، ولذلك لم يكن غريباً أن يوصي الرسول الكريم صحابته: «إذا فتحتم مصر فاستوصوا بأهلها خيراً، فإن لكم فيها نسباً وصهراً»، وقد حقق الفتح العربي لمصر وصية الرسول الكريم.
ومنذ تلك اللحظة تقاسمت مصر مع أمتها العربية حلو الحياة ومرها، حتى غدت درع العروبة حين خرجت الأساطيل المصرية لتدافع عن القاعدة الأولى للعروبة، وعن الأمن العربي في كل من الشام والعراق وبلاد العرب خلال حكم الخلفاء الراشدين ضد الروم البيزنطيين وضد أعداء الوطن، وامتدت هذه الرسالة إلى العصر الحديث حينما دعت مصر الأمة العربية إلى صحوة تقف فيها على حقيقة مقوماتها وخصائصها ضد عدوان العثمانيين والأوروبيين في آن واحد وهو الدور الذي استكملته ثورة يوليو حينما دعمت استقلال ليبيا والسودان وتونس والجزائر والمغرب والصومال وموريتانيا والكويت وقطر والإمارات وعُمان وجيبوتي.
فتصفية الاستعمار في منطقة الخليج وهو اصطلح على تسميته «شرق السويس» كانت نتيجة طبيعية للعدوان الثلاثي على مصر العام 1956.
ويخطئ من يظن أن العلاقة بين مصر وثورة يوليو مع العالم العربي كانت في اتجاه واحد، فقد كانت الأمة العربية من الخليج إلى المحيط بمثابة الجسد لهذا القلب النابض، كانت العمق الاستراتيجي لمصر. وغاية ما في الأمر أن في بعض المراحل التاريخية يبرز الدور المصري الداعم للعروبة مثل مرحلة تحقيق استقلال الدول العربية، في حين يبرز الدور العربي في مراحل أخرى مثلما حدث بعد نكسة 1967 وبدءاً من مؤتمر الخرطوم.
إن استعراض التفاعل العربي مع ثورة يوليو، ومتابعة الدور العربي لها يؤكد أهمية هذا التفاعل وهذا الدور اليوم أكثر من أي يومٍ مضى، وذلك أن هوية الأمة العربية مهددة، فلم يعد التهديد موجهاً ضد دولة أو ضد جماعة بعينها من خلال السعي إلى طمس هويتها وإذابتها في هوية أخرى ومن ثم تبرز الحاجة إلى تأكيد واستمرار دور الثورة في تنشيط العمل العربي المشترك وتحرير الاقتصاد العربي وإبراز الشخصية العربية على الصعيدين القومي والدولي، ودورها في إدارة الصراع العربي الإسرائيلي ومبادرة السلام التاريخية وحل القضية الفلسطينية وصولاً إلى قيام دولة فلسطين وتصفية الخلافات العربية. فالدور العربي لثورة يوليو يستند إلى عدة حقائق، يمكن إجمالها فيما يأتي:
1- إن الدور الرائد لثورة 23 يوليو في الحرب والسلام لم يكن ناتجاً عن رغبة مصرية في فرض الزعامة، بل أملته حتمية تنبع من وضع مصر الاستراتيجي والتاريخي وهو الدور الذي تعزز بقبول عربي ودعم لهذا الدور.
2- إن الأمة العربية استطاعت بمساندة ثورة يوليو أن تحافظ على هويتها وشخصيتها وأن تحقق الاستقلال وأن تقود غمار التنمية في مواجهة محاولات الغزو العسكري والفكري والثقافي ووسط تيارات كانت تهب من كل صوب وحدب.
3- إن هذا التفاعل العربي مع ثورة يوليو استوعب خلافات مصرية عربية كثيرة أمكن احتواؤها وتسويتها في إطار عربي سلمي بفضل التشاور المستمر.
4- ساهم في تحقيق ذلك التزام الأمة العربية - ومصر في قلبها - بالاستناد إلى الشرعية الدولية والالتزام بسيادة القانون واحترام المواثيق والاتفاقات الموقعة لحماية الحقوق العربية.
5- الاستثمار الأمثل للإمكانات الضخمة المتوافرة للدول العربية التي جعلت من الأمة العربية القوة السادسة في العالم بعد حرب 1973 وذلك لمواجهة الأزمات والمشكلات والصعاب بروح التعاون والإخاء إيماناً بوحدة المصير.
6- العمل على إقامة السوق العربية المشتركة لتحقيق أقصى استفادة ممكنة من الإمكانات الاقتصادية العربية في عالم يموج بالتكتلات الاقتصادية العملاقة والأسواق المفتوحة.
إننا جميعا - أبناء الأمة العربية - إن جاز لنا أن نطلق وصفاً لثورة 23 يوليو 1952 ونحن نحتفل بعيدها الرابع والخمسين، وإن جاز لنا أن نختزلها في كلمة واحدة، فمن المؤكد أننا لن نقول سوى ثورة يوليو «العربية»، فهي عربية المنبع، وعربية المسار، وعربية المصب، ولا يسعنا إلا أن نقف جميعاً إكباراً وإعزازاً لنقدم تحية عاطرة إلى كل من شارك فيها، وإلى كل من قاد مسيرتها وإلى كل من استظل بظلها، وتحية لكل مؤمن بالمصير العربي الواحد، في عالم جديد يعاد بناؤه من الأساس، في عالم جديد يسعى بعض أطرافه إلى طمس الهوية العربية تحت دعاوى متعددة قد تكون حقاً ولكن بكل تأكيد يُراد بها باطل
العدد 1416 - السبت 22 يوليو 2006م الموافق 25 جمادى الآخرة 1427هـ