شهدت دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية خلال العقود الثلاثة الماضية نمواً سكانياً متزايداً وتنمية اجتماعية واقتصادية متسارعة صاحبتها زيادات متعاظمة في معدلات الطلب على المياه. ونال القطاع البلدي النسبة الأكبر من هذه الزيادة إذ ارتفع الطلب على المياه في هذا القطاع في دول المجلس من نحو 1 مليار متر مكعب في العام 1980 إلى أكثر من 5 مليارات متر مكعب من المياه في العام 2000، وفي الأعوام العشرة الماضية سجل الطلب على المياه في القطاع البلدي أعلى نمو بين القطاعات المستهلكة للمياه إذ بلغ نحو 200 في المئة.
وقبيل مرحلة السبعينات من القرن الماضي اعتمدت معظم دول المجلس على المياه الجوفية لتلبية متطلباتها من المياه البلدية، إلا أنه ومع الزيادة المطردة في معدلات الطلب على المياه في هذا القطاع، ولتلبية المواصفات النوعية لمياه الشرب، ومع تدهور نوعية المياه الجوفية المستمر بسبب استغلالها الجائر، لجأت دول المجلس إلى المياه المحلاة، وشهدت المنطقة توسعاً كبيراً في إنشاء محطات التحلية، ساعدها في ذلك توافر الإمكانات المالية العالية نسبياً والطاقة المتمثلة في الغاز الطبيعي والنفط لتشغيل هذه المحطات.
وتوجد لدى دول مجلس التعاون حالياً سياسات راسخة لتوفير الإمدادات الرئيسية للمياه البلدية/الشرب بالاعتماد على تحلية مياه البحر، إذ توفر محطات التحلية في معظم دول المجلس النسبة الأكبر من احتياجات هذا القطاع لتلبية متطلباته المتزايدة من حيث الكمية والنوعية المطلوبة، وتبلغ حصة المياه المحلاة من إمدادات المياه للقطاع البلدي أكثر من 70 في المئة في دول قطر والكويت والإمارات ومملكة البحرين، وأكثر من 40 في المئة للمملكة العربية السعودية، ونحو 35 في المئة لسلطنة عمان، وتبلغ هذه النسبة لمجمل دول المجلس أكثر من 60 في المئة. وبحسب المؤشرات الحالية المتمثلة في التدهور المستمر في نوعية المياه الجوفية وعدم مواءمة نوعيتها لمواصفات المياه المنزلية، والطلب المتسارع على المياه البلدية والتزايد المستمر لحصة المياه المحلاة في القطاع البلدي، فإنه من المتوقع أن تصبح المياه المحلاة المصدر الرئيس للقطاع البلدي في جميع دول المجلس في المستقبل.
وقد أدى هذا التوجه إلى امتلاك دول المجلس مجتمعة أعلى طاقة تحلية في العالم، إذ تتجاوز الطاقة الإنتاجية لمحطات التحلية في هذه الدول أكثر من 50 في المئة من طاقة التحلية العالمية، وحالياً تبلغ الطاقة المركبة للتحلية في دول مجلس التعاون أكثر من 3 مليارات متر مكعب في العام.
وتعتبر كلفة إنتاج المياه المحلاة في دول المجلس عالية نسبياً، وتتفاوت بحسب نوع التقنية المستخدمة (أساساً تقنيتي التناضح العكسي والتبخير الومضي)، كما تلعب اقتصادات الحجم دوراً كبيراً في سعر الكلفة فكلما زاد حجم المحطة انخفضت الكلفة. وتشير الدراسات إلى انه على رغم أن الكلفة المالية لتحلية مياه البحر من المحطات الكبيرة انخفضت إلى ما بين نحو 0,45 و0,70 دولار أميركي للمتر المكعب (غير شاملة كلف التوزيع ومدة استرجاع الكلف الاستثمارية وكلف الطاقة) في الولايات المتحدة ودول أخرى، فإن متوسط كلف إنتاج المياه المحلاة في دول المجلس مازال يتراوح بين 1 و2 دولار أميركي للمتر المكعب. أضف إلى ذلك الاحتياجات الاستثمارية لبناء محطات تحلية جديدة لتوفير المياه لأعداد السكان المتزايدة وارتفاع معدل استهلاك الفرد العالي في المنطقة، كما تمثل الإعانات المالية الكبيرة والمتمثلة في ارتفاع كلف بناء محطات التحلية والفجوة الكبيرة بين كلف الإنتاج والتزويد والإيرادات (تتراوح الإعانات ما بين 0,5 و1,8 دولار أميركي للمتر المكعب) عبئاً كبيراً على كاهل الموازنات المالية لدول المجلس.
وتؤشر جميع هذه المعطيات إلى أن دول مجلس التعاون مقبلة على استثمارات هائلة وتكاليف باهظة في مجال التحلية وبتزايد مع الوقت. إلا أنه وعلى رغم الاعتماد الكبير على تقنيات التحلية في دول المجلس وامتلاكها نصف الطاقة الإنتاجية العالمية، فإن هذه الدول مازالت لا تمتلك من هذه التقنيات إلا الجزء البسيط وتعتمد بشكل رئيسي على استيرادها من الخارج.
وعلى المستوى السياسي، احتل موضوع مياه الشرب في دول المجلس أحد الموضوعات الرئيسية التي تمت مناقشتها في قمة مجلس التعاون في مسقط في العام 2001، وطرحت في الاجتماع الخيارات المتاحة لتلبية المتطلبات المتنامية لهذا القطاع وقضية الأمن المائي السكاني، ومنها استيراد المياه من الخارج، ونتج عن هذه القمة نص صريح بشأن هذا الموضوع «بأن التحلية هي الخيار الرئيسي لدول المجلس للتزويد بمتطلبات مياه الشرب». وبناء عليه، سعت الأمانة العامة إلى ترجمة هذا التوجه الاستراتيجي على أرض الواقع إلى خطوات عملية، وخلصت، بعد مشاورات واتصالات عدة مع الخبراء والأكاديميين وممثلي دول المجلس، إلى أن امتلاك وتوطين هذه التقنية هو الخطوة الأولى لتحقيق هذا التوجه. وفعلاً تم صوغ مسودة مشروع تمت الموافقة عليه مبدئياً من قبل الوزراء المسئولين عن المياه في دول المجلس، تضمن تحويل مركز الجبيل لأبحاث تحلية مياه البحر بالمملكة العربية السعودية، بسبب حجمه وإمكاناته، إلى مركز إقليمي لأبحاث التحلية يمد جميع دول المجلس بخدماته العلمية والبحثية وربط الأنشطة البحثية لدول المجلس بهذا المركز، ولتبدأ مرحلة جديدة تتوحد فيها الجهود وتتكامل فيها الدراسات المختصة بقطاع التحلية، وصولاً إلى توطين وامتلاك هذه التقنيات في دول المجلس.
كما أنه من المتوقع أن يؤدي تفعيل التعاون الخليجي في بحوث تحلية المياه بهدف توطين تقنيات تصميم وبناء محطات التحلية وتشغيلها وصيانتها إلى تعظيم المنافع الاقتصادية والاجتماعية من مشروعات التحلية وزيادة القيمة المضافة لقطاع التحلية في الاقتصادات الوطنية لهذه الدول، وذلك من خلال التصنيع المحلي لقطع الغيار والمواد المتعلقة بها، وتأهيل وتوظيف الكفاءات الوطنية في جميع مراحل وخدمات قطاع التحلية.
إلا أن حال هذا المشروع لم يختلف كثيراً عن المشروعات المشتركة بين دول مجلس التعاون إذ توقف المشروع في مراحله الأولى بسبب اختلافات على إدارة المركز الإقليمي ونسب المساهمة في موازنته بين الدول. وبذلك انتهت مرحلة التفاؤل التي عاشها المختصون في مجال المياه في المنطقة آنذاك، والتي كانوا يأملون أن تليها خطوات مشتركة مماثلة في مجالات المياه الأخرى ذات الأولوية في دول المجلس كإدارة موارد المياه الطبيعية والمياه البلدية ومياه الري ومياه الصرف الصحي وإعادة استخدامها، وغيرها من الموضوعات الملحة المشتركة.
إذاً والوضع على ما هو عليه وفي ضوء المتغيرات المذكورة أعلاه، فإنه لابد أن تنظر دول المجلس مرة أخرى إلى موضوع امتلاك وتوطين تقنيات التحلية نظرة جدية تتناسب مع أهميته الحيوية للأمن المائي لسكانها الحاليين والأجيال المستقبلية، بالإضافة إلى تعظيم القيمة المضافة لقطاع التحلية في التنمية الاجتماعية والاقتصادية في هذه الدول.
ويحتاج الأمر إلى إرادة سياسية قوية تقرر فيها دول المجلس امتلاك تقنيات تحلية المياه في فترة زمنية محددة، وتضع جل إمكاناتها لتحقيق ذلك من خلال الاستثمار في مجال البحث والتطوير لتحقيق تقدم كبير في هذه التقنيات تنقلها من دول مستوردة لهذه التقنيات إلى دول مصدرة لها، وخصوصاً في حال الوفرة المالية التي تمر بها دول المجلس حالياً. وإذا ما تمكنت دول المجلس من توطين هذه التقنيات في دولها فإنه من المتوقع أن تنخفض كلفة إنتاج المياه المحلاة بشكل كبير في هذه الدول وبالتالي زيادة أو ثبات حصة الفرد الخليجي من المياه البلدية عند مستويات معقولة تفي بمتطلباته الرئيسية، مساهماً بذلك في تحقيق الأمن المائي لدول المجلس
إقرأ أيضا لـ "وليد خليل زباري"العدد 1416 - السبت 22 يوليو 2006م الموافق 25 جمادى الآخرة 1427هـ