من اللحظات التاريخية التي لن ينساها اللبنانيون، يوم اقتحام معتقل الخيام، يوم اندحار «إسرائيل». فهذه اللحظة تضاهي لحظة سقوط «الباستيل» الذي كان يرمز في تاريخ فرنسا إلى حقبة الاستبداد والظلم والقهر والطغيان.
في الذكرى الثانية للتحرير (22 مايو/ أيار 2002)، تجمّع أكثر من 70 من الفنانين والكتاب من مختلف الدول العربية، في ملتقى فني تشكيلي كبير. بعد ذلك بشهرين فقط كنت ضمن فوجٍ سياحيٍّ من عوائل خليجية من البحرين والسعودية والكويت والإمارات، ذهبوا لزيارة لبنان، ومشاهدة «آثار» المقاومة في الجنوب.
توقّفت االحافلات عند «بوابة فاطمة». سورٌ من الشباك الحديد يفصل الجانبين، يمكنك أن تلاحظ موقع الجنود الصهاينة على بعد 100 متر فقط، يتمترسون في موقعهم الذي تغطيه أكياس الرمل. كانت هناك حصالاتٌ لدعم المقاومة، أرسلت العوائل أطفالها ببعض الأموال للتبرّع للصامدين... والتقطوا بعض الصور، ثم عادوا إلى الحافلات.
المحطة الثانية كانت معتقل الخيام. بوابةٌ واسعةٌ مهيبة، وفناءٌ كبيرٌ يتسّع لعددٍ من الحافلات. غرفٌ عليها لافتاتٌ توضّح طريقة استخدامها. سيارة جيب إسرائيلية محطّمة. نزل السائحون وتفرّقوا في أنحاء المعتقل. أما أنا فحملت طفلتي التي لم تتجاوز الثالثة، على كتفي، وأسرعتُ باتجاه الزنزانات لئلا يسبقني إليها أحد. ربما لرغبةٍ شخصيةٍ للمقارنة بين زنزاناتهم وزنزاناتنا، وفيما تفوقوا علينا وفيما تفوقنا عليهم في العهد القديم!
دخلت أحد العنابر، ممراً ضيّقاً موحشاً. بعض الزنزانات ضيقة جداً كالقبر، لا تتسع لأكثر من شخص، وأكبرها تتسع لأربعة أو ستة. أسِرّةٌ مهترئة، وشراشفُ قديمة، وأوانٍ بسيطةٌ يعلوها الغبار. وعلى الجدران كلماتٌ يصعب قراءتها في الظلام، وأسماءٌ وخطوطٌ وتواريخ، وربما قصائدُ هيّجها الحنين للوطن والتغنّي بالحرية الحمراء التي ستنبت أزهاراً ووروداً ذات يوم.
ظلامٌ دامس، أحسست بضيقٍ يكتم الأنفاس... هنا في هذه القبور إذاً أفنى من قاوموا الاحتلال سنواتٍ من أعمارهم وزهرة شبابهم. انتبهت طفلتي إلى ملامح الأسى على وجهي، لم تكن تدري أين هي ولماذا أنا حزين. أرادت أن تسألني فاحتضنتها، وكنت أحبس دموعي. التقطت لها صورةً على باب زنزانة، وخرجتُ إلى عنبرٍ آخر.
التفاصيل نفسها هنا وهناك... الظلمةُ والوحشةُ والكآبة، دخلت زنزانةً، اعتليت مصطبةً في نهايتها، تسلقتُ لأنظر من الكوّة القريبة من السقف. فتحت النافذة الصغيرة فهبّ نسيمٌ عليلٌ وتطاير الغبار بوجهي، ورأيت فإذا سهلٌ أخضر ينبسط على امتداد وادٍ عميق. كانت هناك ورودٌ حمراء وصفراء تسلب القلب. نحن في البحرين لم نكن نملك مثل هذه الكوّة، ولا هذا السهل الأخضر والورود. لكن... هل كان المحتل يسمح لهم باعتلاء هذه المصطبة وفتح النافذة الصغيرة ليهبّ عليهم مثل هذا النسيم العليل؟
معتقل الخيام، «باستيل لبنان»، جهنم الإسرائيلية... حوّلته العبقرية اللبنانية إلى متحفٍ طبيعي، ليظل شاهداً على فظاعة «الحقبة الإسرائيلية» العابرة حتماً في تاريخ المنطقة. خلال ست سنوات من التحرير زاره مئات الألوف من مختلف جنسيات الدنيا، لعل آخرهم الكاتب الأميركي نعوم تشومسكي الذي دخل زنزانة وأقفل على نفسه بابها لدقائق، ولما خرج قال إن تجربة الحياة فيها لابد أن تكون مختلفة تماماً.
هذا المتحف، أرسل الإسرائيليون طائراتهم الحربية يوم الخميس الماضي لشن أربع غارات لتدميره ولمحو الشاهد الأكبر على حقبة الطغيان الذي ينبعث هذه الأيام من جديد
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1416 - السبت 22 يوليو 2006م الموافق 25 جمادى الآخرة 1427هـ