العدد 1416 - السبت 22 يوليو 2006م الموافق 25 جمادى الآخرة 1427هـ

حرب مزدوجة ضد الدولة والمقاومة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

مضى الآن 12 يوماً على حرب الدمار الشامل ضد لبنان التي تنفذها «إسرائيل» بالوكالة عن الولايات المتحدة. فالحرب حتى الآن تبدو مفتوحة على كل الاحتمالات وخصوصاً بعد أن رفضت أميركا مبادرة كوفي عنان وأحبطت مشروع قرار لوقف اطلاق النار. الإدارة الشريرة في «البيت الأبيض» لا تريد وقف النار والدخول في مفاوضات والبحث عن مخارج للازمة أو صيغ للحل قبل أن تستكمل الدولة العبرية خطة التقويض.

وزيرة الخارجية كوندليزا رايس تحدثت بوضوح عن هذا الأمر حين أكدت أنه لا وقف للنار قبل الاتفاق على حل. وبكلام آخر إن الحرب مستمرة إلى أن تتوافق الأطراف على مشروع شامل أو كما قالت رايس: «البدء في إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط».

هذه الأهداف الكبيرة والبعيدة التي أعلنت عنها وزيرة الخارجية الأميركية بمناسبة تنفيذ حزب الله عملية دفاعية نوعية في الجنوب تكشف عن وجود مخطط جاهز لنقل «الفوضى البناءة» إلى لبنان وتحويل هذا البلد الصغير من جديد إلى ساحة مفتوحة للصراع الدولي - الإقليمي لا يعرف متى ينتهى وإلى أين يقود هذا الشعب المسكين.

بدأت الآن تتضح بعض معالم الصورة التي أخذت ترسم على الأرض اتجاهات الرياح الدولية والإقليمية. أميركا تقول إن «إسرائيل» لم تبدأ الحرب وإنها تدافع عن نفسها لصد قوة لبنانية تهدد أمنها واستقرارها بالصواريخ... ولذلك لن يتوقف الرد الإسرائيلي قبل انهاء ذاك الخطر المزعوم. «إسرائيل» بدورها تزعم انها مهددة وان دولتها ومستوطناتها ومستعمراتها في خطر وهي لن توقف النار قبل تحقيق أهدافها السياسية والعسكرية.

بريطانيا تدعم بقوة الموقف الأميركي - الإسرائيلي بينما فرنسا التي استنكرت حادث خطف الجنديين وجدت في الرد عناصر مرعبة تفوق كل التصورات. لذلك بادرت إلى طلب وقف النار والبحث عن حل دبلوماسي لانقاذ ما تبقى من مرتكزات اقتصادية تسمح للجمهورية بإعادة ترميم نفسها. روسيا اطلقت تصريحات واتخذت سلسلة مواقف قريبة من الموقف الفرنسي. والصين حتى الآن لم تتحرك بقوة ويرجح الا يختلف موقفها، في حال قررت المبادرة، عن الموقف الفرنسي - الروسي.

ترتيب الأوراق

إذاً أخذت الحرب على لبنان ترسم في الافق الدولي مجموعة مواقف تذكّر بتلك الصورة التي ظهرت خلال فترة التحضير للعدوان على العراق. آنذاك تشكل المحور الأميركي - البريطاني (الإسرائيلي طبعاً) مدعوماً من حكومتي إيطاليا وإسبانيا. وقابل هذا المحور مجموعة اطلق عليها «دول الضد» وتألفت من فرنسا، ألمانيا، روسيا والصين. وتحت هذا السقف الدولي اتخذت واشنطن مدعومة من لندن قرار الانفراد في الحرب على العراق الأمر الذي أسهم في توتير الاجواء الدولية وكاد ان يعطل الكثير من تلك التفاهمات الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

بعد الحرب على العراق احتاجت واشنطن إلى فترة زمنية لإعادة ترتيب علاقاتها مع فرنسا وألمانيا وتقديم جوائز ترضية إلى روسيا والصين حتى تلتزم الصمت حيال استفراد أميركا بالغنيمة العراقية.

بين سقوط بغداد في العام 2003 وبدء العدوان التدميري على لبنان في يوليو/ تموز 2006 حصلت في العالم تطورات كثيرة أضعفت المحور الأميركي - البريطاني. في أميركا اللاتينية اجتاح «اليسار الديمقراطي» خمس دول وبدأت موجة العداء للسياسة الامبريالية تهدد نفوذ واشنطن في منطقة تعتبر تقليدياً حديقة خلفية لمصالحها. وفي آسيا نجحت كوريا الشمالية في الابتعاد عن الرقابة الدولية وأعلنت عن استكمال مشروعها النووي وبناء منظومة صواريخها البالستية (العابرة للقارات). وفي منطقة «الشرق الأوسط» الصغير أو الكبير لم يتحول «النموذج العراقي» إلى مثال يحتذى ويجذب الشعوب وانما بات ذاك «النموذج» مدعاة للسخرية والشماتة.

في هذا الجو القلق حصل التمديد للرئيس اميل لحود. وعلى رغم تفاهة الموضوع استغلته واشنطن لتحسين علاقاتها مع فرنسا وتوافقت معها على اصدار القرار 1559 وهو رد لا يتناسب فعلاً مع حجم الخطأ الدستوري. فالقرار الذي اعترض على تمديد ثلاث سنوات لرئيس جمهورية تضمن أربع فقرات خطيرة كلها تعكس جوهر المشروع الإسرائيلي في لبنان.

شكّل القرار 1559 بداية خطة زعزعة الاستقرار في لبنان وكان هو المدخل الدولي لكل الحوادث والاضطرابات والاغتيالات والتصفيات. ولكن القرار الذي وضع لبنان تحت سقف التدويل كان مناسبة للولايات المتحدة لعقد مصالحة (صفقة) مع فرنسا. ومنذ تلك اللحظات شهد هذا البلد الصغير حوادث تفوق الوصف. ففي أقل من شهور اغتيل رفيق الحريري. وفي أقل من أسابيع اتهمت دمشق واضطرت القيادة السورية إلى سحب قواتها من لبنان تنفيذاً لتلك الفقرة الواردة في القرار. وبعد ذلك أخذت الضغوط تمارس على دولة ضعيفة تعاني من ديون (40 مليار دولار) وغير قادرة على تأمين المياه والكهرباء لتنفيذ ما تبقى من فقرات القرار وهي: سحب سلاح حزب الله، سحب سلاح المخيمات الفلسطينية، وأخيراً نشر قوات الجيش اللبناني على الحدود الدولية مع «إسرائيل».

الولايات المتحدة كانت تعلم ولاتزال أن لبنان غير قادر لتنفيذ هذه «المهمات الإسرائيلية». كذلك كانت على بينة واضحة بأن هذه الدولة لا تملك الإمكانات العسكرية لتنفيذ هذا المشروع. ولكن واشنطن استمرت تضغط وتناور وتهدد الحكومة بضرورة تنفيذ القرار والا ستلجأ إلى وسائلها الخاصة.

في هذا الوقت تواصلت المتغيرات على المسرح الدولي. فإسبانيا مثلاً خرجت من المحور الأميركي - البريطاني بعد تفجيرات مدريد وسقوط حليف واشنطن - لندن في الانتخابات. وفي ألمانيا تغير المشهد الدولي لمصلحة أميركا حين أسفرت الانتخابات عن سقوط شرودر ونجاح ميركيل حليفة «البيت الأبيض». بينما دخلت فرنسا في حال حصار داخلي بعد فشل التصويت على مشروع دستور الاتحاد الأوروبي وحصول اضطرابات عنيفة في ضواحي العاصمة والمدن الفرنسية. مقابل هذا التوتر الفرنسي والخروج الألماني حصلت مفاجأة في إيطاليا حين نجح برودي في الانتخابات مسقطاً حليف جورج بوش وزعيم المافيات برلسكوني.

إعادة إحياء الدور الإسرائيلي

هذه المتغيرات لم تكسر المعادلة الدولية التي استقرت بين فرنسا وأميركا. فالاجواء العامة حافظت على نسبة محدودة من الاستقرار الدولي. فالمحور الأميركي - البريطاني الذي خرجت منه إسبانيا وإيطاليا توسع باتجاه إدخال ألمانيا وفرنسا. وكان عنوان هذا المحور القوي دولياً إعادة ترتيب «الشرق الأوسط» وفق صيغة تحترم توازن المصالح بين القوى الكبرى.

إلا أن هذا المحور الرباعي أصيب بصدمات إقليمية عبرت عن نفسها بنمو نوع من «الحرب الباردة» بين روسيا وأميركا على خلفية الازمة الاوكرانية، كذلك ظهرت بوادر خلافات أميركية - صينية بسبب أزمة الصواريخ الكورية وما رافقها من تصريحات أطلقها وزير الدفاع دونالد رامسفيلد انتقد فيها التسلح الصيني مثيراً بذلك مخاوف حلفاء أميركا في شرق آسيا (اليابان، تايوان وكوريا الجنوبية).

ولكن الصدمة الأهم كانت تلك التي جاءت من إيران. فهذه الدولة أعلنت بعد الانتخابات الرئاسية عن رفضها تلك التوافقات التي وقعتها مع دول الاتحاد الأوروبي بشأن ملفها النووي. واستغلت «إسرائيل» المسألة وأخذت تضغط بالتحالف مع الولايات المتحدة على تدويل الملف باعتباره يشكل خطراً على السلام العالمي. وهكذا دخلت المنطقة في طور جديد من التأزم حين أخذت تل أبيب تعمل على استعادة دورها الإقليمي (الوكالة الأمنية) الذي تراجع عسكرياً بعد احتلال أفغانستان وسقوط بغداد.

تجديد الدور الإقليمي لموقع «إسرائيل» في معادلة «الشرق الأوسط» اثار تلك المخاوف السورية والإقليمية. فسورية بعد اغتيال الحريري وانسحابها العسكري من لبنان دخلت في مرحلة عزلة عربية بعد أن ابتعدت عن المحور المصري - السعودي. فهذا المحور العربي الذي استقرت عليه المنطقة فترة طويلة من السنوات نهض على ثلاث دول (مصر، السعودية، وسورية). وبخروج سورية أصبح المحور يعتمد على ثنائية مصر والسعودية.

هذا الأمر دفع دمشق إلى البحث عن بديل إقليمي فتوجه الرئيس السوري إلى طهران وتفاهم مع قيادتها على مجموعة اتفاقات اقتصادية وثقافية وأمنية ودفاعية. وبعدها رد الزيارة الرئيس الإيراني وجاء إلى دمشق لتوقيع تلك الاتفاقات والتفاهمات.

مشهد الحرب وتداعياتها

المتغيرات إذاً لم تقتصر على المشهد الدولي وإنما شملت المشهد الإقليمي أيضاً. فالمحاور العربية أعيد ترتيب علاقاتها ضمن ثنائيات. ولبنان كعادته تحول إلى مرآة تعكس تلك المتغيرات والمحاور الإقليمية، فبات المحور الثنائي المصري - السعودي يدعم مشروع الدولة اللبنانية وإعادة إعمار البلاد وترتيب أوضاعها الداخلية ضمن صيغة توافقية سلمية. بينما المحور السوري - الإيراني كان يرى أن هناك خطراً من مشروع التقويض الأميركي - الصهيوني واتجه نحو دعم المقاومة اللبنانية وتعزيز دورها وموقعها.

التجاذب الدولي - الإقليمي ومتغيراته تمظهر بقوة ووضوح في المشهد اللبناني منذ العام 2005 حين انشطر البلد الصغير إلى ما أطلق عليه جماعة «8 آذار» وجماعة «14 آذار». فالأول يدعو إلى المقاومة ورفض نزع السلاح مدعوماً من المحور السوري - الإيراني والثاني يدعو إلى التهدئة ودعم الدولة وتعزيز وجودها ونفوذها مدعوماً من المحور المصري - السعودي.

تحت سقف الانقسام الأهلي/ السياسي اللبناني ارتسمت خطوط المواجهة الحاصلة الآن ويبدو أنها ستمتد إلى فترة حتى تتضح معالم صورتها. وقبل أن تستقر تقلبات المشهد يمكن رصد بعض وجوه الصورة العامة التي أخذت ترتسم حدودها الدولية والإقليمية على الأرض اللبنانية.

الحرب التي تقودها «إسرائيل» نيابة عن الولايات المتحدة (المدعومة من بريطانيا) أعادت خلط الأوراق وكشفت عن وجود متغيرات جديدة في معادلة التحالفات الدولية والإقليمية. أميركا الآن في صدد احياء الدور الإسرائيلي وإعادة الاعتبار لموقعها الإقليمي في زعزعة استقرار المنطقة كما كان شأنها في حروبها ضد دول المنطقة. فرنسا كما يبدو غير موافقة على تجديد الوكالة الإسرائيلية واستخدامها كقاعدة متقدمة ضد المحيط العربي. بريطانيا تدعم أميركا بينما روسيا، الصين، إسبانيا وإيطاليا تميل إلى حد ما إلى دعم الموقف الفرنسي.

هذا دولياً. عربياً يظهر على الشاشة الدور الخاص الذي يقوم به المحور المصري - السعودي. فهذا المحور نشط دولياً على الخطين الأوروبي (فرنسا، إيطاليا، وإسبانيا) والأميركي للحث على وقف النار وحرب الدمار الشامل التي تقودها «إسرائيل» ضد الدولة اللبنانية. فرنسا ومن معها تدفع بدورها بهذا الاتجاه وقام رئيس حكومتها ووزير خارجيتها بزيارة لبنان ودعمت حكومة جاك شيراك خطة كوفي عنان لوقف النار وحرب الدمار تمهيداً للمفاوضات وإعادة ترتيب الوضع. أميركا رفضت وقف النار وواصلت دعمها لوكيلها القديم/ الجديد في استكمال حرب التقويض ضد لبنان دولة ومقاومة.

من خلال هذا المشهد الدولي/ الإقليمي يمكن فهم أسباب ودوافع هذه الحرب المزدوجة التي تخوضها «إسرائيل» ضد الدولة والمقاومة على السواء. فالحرب ضد الدولة اللبنانية تعني محاولة لاضعاف المحور المصري - السعودي عربياً من خلال تحطيم نفوذه والعمل على إخراجه من المعادلة المحلية (كسر قوة 14 آذار). والحرب ضد المقاومة اللبنانية تعني محاولة لاضعاف المحور السوري - الإيراني عربياً ومنع عودته إلى المعادلة المحلية من خلال كسر شوكة القوة الأساس في جماعة 8 آذار.

الحرب إذاً مزدوجة ومفتوحة على خطين. لذلك يمكن أن نفهم لماذا حطمت «إسرائيل» بدعم من أميركا وبريطانيا البنية التحتية للدولة وضربت كل المرتكزات التي تحتاجها إلى النهوض بدورها. كذلك يمكن أن نفهم لماذا أعلنت «إسرائيل» حرب الدمار الشامل على كل مؤسسات الخدمة المدنية والإعلام والهيئات التابعة لحزب الله والمشروعات الخيرية للسيدمحمد حسين فضل الله بذريعة خطف جنديين.

الحرب مزدوجة ولم توفر منطقة أو طائفة أو مدينة تنتمي جماهيرها إلى «8 آذار» أو «14 آذار». وهذا يعني أن أميركا قررت الابتعاد دولياً عن فرنسا في سياق محاولة نزع لبنان من إطاره العربي أو على الأقل الحد من نفوذ المحور المصري - السعودي مقابل منع عودة نفوذ المحور السوري - الإيراني. ولهذا السبب نفهم لماذا رفضت أميركا اقتراح وقف إطلاق النار الذي طرحته الأمم المتحدة بتوافق فرنسي/ مصري/ سعودي. وعلى هذا يمكن فهم دوافع تأجيل رايس زيارتها أكثر من مرة إلى المنطقة ومعاني أو خلفيات تصريحها بشأن «إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط».

الحرب المزدوجة بدأت تتوضح معالمها وأبعادها الإقليمية والدولية. فأميركا تحارب المحورين الأول المصري - السعودي (الدولة و14 آذار) المدعوم من فرنسا، والثاني السوري - الإيراني (حزب الله و8 آذار) الذي يبحث عن غطاء دولي روسي - صيني. والنتيجة العينية الظاهرة حتى الآن على الشاشة السياسة تفريغ لبنان من الدولة والمقاومة ومنع المحورين من العودة أو ممارسة النفوذ. وهذه الظاهرة تتلخص في نقطة واضحة وهي: إعادة إحياء الوكالة الإسرائيلية وتجديد دور تل أبيب وتحضيرها للقيام بمهمات خاصة في «الشرق الأوسط» لإعادة ما وصفته رايس بهيكلة خريطة المنطقة من جديد

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1416 - السبت 22 يوليو 2006م الموافق 25 جمادى الآخرة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً