السباق جارٍ بين الحرب المفتوحة على لبنان لتقويض الدولة والمقاومة وبين الدبلوماسية المغلقة التي تدور فيها مفاوضات ممتدة من أروقة الأمم المتحدة في نيويورك إلى الغرف السرية في بيروت وتل أبيب.
حتى الآن مضى على سياسة تحطيم لبنان 11 يوماً، ويرجح أن المفاوضات الدبلوماسية لن تنجح في وقف الكارثة التي سقطت كالصاعقة على الشعب ودمرت البنية التحتية للقطاعين العام والخاص قبل مضي 11 يوماً آخر.
حتى مثل هذه التقديرات ليست دقيقة. فالبعض يقول إن الولايات المتحدة أعطت «إسرائيل» فرصة أسبوع لاستكمال مشروعها. والبعض الآخر يضيف على مهلة الأسبوع عدة أيام تنتهي مع نهاية الشهر الجاري وبعدها تبدأ المفاوضات بشأن الأسيرين.
هناك إذاً بين الأسبوع والأيام العشرة على الأقل. وهذه المدة كافية كما يبدو للعدوان الإسرائيلي لتدمير ما تبقى من مصادر رزق للبنانيين. لكنها بالتأكيد ليست كافية لتدمير حزب الله وتحطيم قدراته العسكرية والبشرية. فالحزب في المعنى السوسيولوجي لفهم عناصر القوة والضعف أقوى من الدولة. فالطائفة في لبنان هي في النهاية الأقدم والأقوى. و«إسرائيل» في حربها المفتوحة تستطيع بسهولة شطب الدولة من المعادلة وتشطير لبنان إلى ادارات محلية، كما هو حال العراق الآن بعد الغزو الأميركي وتقويض دولة التكريتي، إلا أنها لا تستطيع أن تقوض طائفة بكاملها.
الحرب المفتوحة إذاً لاتزال حتى الآن هي العنوان. والمعلومات تشير إلى أن «إسرائيل» أخذت بحشد قوات برية على الحدود الجنوبية وتنتظر الوقت المناسب لتسديد ضربتها الميدانية. ويرجح أن يكون «الوقت المناسب» بعد أن تنتهي الدول الكبرى من إجلاء رعاياها خلال الأيام الثلاثة المقبلة. وبعد ذلك يحتمل ان تبدأ المواجهة البرية الكبرى في حال وصلت دبلوماسية المفاوضات إلى حائط مسدود.
الحرب البرية لم يستبعدها السيدحسن نصرالله في المقابلة التي أجرتها محطة «الجزيرة» أمس الأول. كذلك لم يستبعد أن تتقدم القوات الإسرائيلية إلى عمق جغرافي يتراوح بين 10 و20 كيلومتراً. وحتى لو حصل مثل هذا الاحتمال فإن قوات الحزب ستبقى قادرة على إطلاق صواريخها. فالسيد في كلامه كان واضحاً في تلك الإشارة ولم يتردد في القول إن موازين القوى العسكرية لمصلحة «إسرائيل». فالسيد كان دقيقاً في كلامه لم يخدع ويناور كما يفعل «الجنرالات» و«العمداء» في مقابلاتهم التلفزيونية. فالسيد يعرف موازين القوى فلم يتحدث عن «توازن الرعب» وعن تحرير فلسطين وتدمير دولة «إسرائيل» كما يتحدث «الجنرالات» بفرح وسرور وسعادة ويأخذون في المبالغة والمزايدة واطلاق البالونات الحرارية والتحليلات الساذجة عن نظرية «التوازن» الاستراتيجي وضعف «إسرائيل» واحتمال انكسارها بالصواريخ البعيدة المدى.
مقابلة السيد في «الجزيرة» كشفت الكثير من الأمور الغامضة وألقت الضوء على جوانب من الزوايا الحادة. فهو أكد أن قرار عملية 12 يوليو/ تموز اتخذته حلقة ضيقة وسورية لم تكن على علم بها ولا إيران. مشيراً إلى أن القرار لم يبلغ لا إلى الحكومة اللبنانية ولم تعلم به أكثر القوى قرباً منه.
هذا التوضيح يرد على تلك الاتهامات التي تقول إن العملية جرت بناء على تعليمات المحور السوري - الإيراني. هذا أولاً. ثانياً شرح كلامه ملابسات تصريح السفير السوري في لندن الذي طالب حزب الله بوقف اطلاق صواريخه على المستوطنات والمستعمرات الصهيونية ثم عاد وعدله في اليوم الثاني. كذلك كشف التوضيح أسباب سقوط اسم لبنان سهواً من منظومة المقاومة الدفاعية في المنطقة حين أجرى الرئيس الإيراني اتصاله الهاتفي مع الرئيس السوري.
كلام السيد ألقى الضوء على كثير من الزوايا وكشف تلك الأسباب التي جعلت الحلقة الثالثة والحلقة الرابعة من السلسلة تلتزم الصمت وعدم التحرك الميداني لحماية حزب الله ولبنان من نكبة جديدة.
حرب مكشوفة
إذاً لبنان يخوض حربه من دون غطاء دولي أو عربي أو إقليمي. والحزب بات مكشوفاً استراتيجياً واحتمال امتداد المواجهة أو انتقالها من البر والجو إلى الأرض أصبح وارداً وربما يحصل الأمر خلال أيام معدودة. والسيد قال هذا الأمر في لقاء «الجزيرة» موضحاً أنه «لو جاء الكون كله فإن الحزب لن يسلم الجنديين إلا عبر تفاوض غير مباشر». والتفاوض غير المباشر يبدو أنه بدأ منذ اليوم الأول للعدوان الصهيوني. والمعلومات المتوافرة في هذا الشأن تقول إن «إسرائيل» وافقت من حيث المبدأ على عملية التبادل وتسليم الأسرى اللبنانيين مقابل الجنديين المحتجزين. ولكنها طلبت من الوفود الدولية والأوروبية المتصلة مهلة من الوقت حتى تنفذ خطة إضعاف شوكة حزب الله العسكرية.
وبما أن قرار الحزب حتى الآن يرفض تسليم الجنديين حتى «لو جاء الكون كله» فمعنى ذلك أن الحرب المفتوحة ستنتهي بالتفاوض. وهذا شأن كل الحروب حين تصل القوى المتصادمة إلى ما يسمى «التوازن السلبي».
التوازن السلبي يعني عسكرياً أن حزب الله لا يملك تلك القوة القادرة على هزيمة «إسرائيل»... والعدو الصهيوني بدوره غير قادر على سحق حزب الله. فضرب الحزب نهائياً يعادل نسبياً شطب طائفة لبنانية بكاملها من الخريطة السياسية والجغرافية. وهذا الاحتمال غير وارد ويستبعد حصوله ولا تملك «إسرائيل» تلك القدرة.
المفاوضات إذاً تعتبر نهاية متوقعة للحرب المفتوحة على لبنان وحزب الله. وقبل ان تصل إليها الدبلوماسية التي تتحرك على خطوط عربية وإقليمية وأوروبية ودولية ستتواصل تلك الحرب المدمرة. والسبب أن التحركات الدبلوماسية متصلة دائماً بالحرب وهي محكومة ميدانياً وسياسياً بثلاثة شروط:
الأول، السقف الدولي ومدى استعداد دول مجلس الأمن لوضع حد للعدوان الإسرائيلي.
الثاني، حدود التنافس الفرنسي - الأميركي على قيادة الحل أو على الأقل وضع تصورات ثنائية مشتركة تشبه تلك التوافقات التي صاغت «تفاهم نيسان» في العام 1996 بالتنسيق مع سورية.
الثالث، المتغيرات الحاصلة ميدانياً في تلك المواجهة المتصلة يومياً على الأرض وما ستسفر عنه حرب الصواريخ المتبادلة بين حزب الله والعدو الصهيوني، واحتمال بدء المواجهة البرية في الجنوب.
الشرط الثالث مهم لأن معادلة الأرض ترسم خطوط الحل الدبلوماسي. فإذا صمد حزب الله قرابة الأسبوع ونجح في مواصلة الرد فإن مجرى المواجهة سيتحول للوصول إلى نقطة «التوازن السلبي». وهذا الاحتمال غير مستبعد ويرتبط بمدى فشل «إسرائيل» في كسر الشوكة العسكرية للحزب. وإذا نجحت «إسرائيل» في تعطيل إمكانات الحزب عن الرد وتقدمت ميدانياً وأسست حالاً من القلق الشعبي والانقسام الأهلي في الداخل اللبناني فإنها تستطيع أن ترسم خطوط تماس جديدة ومدولة وليست بعيدة عن تلك النتائج التي توصلت إليها سابقاً في العامين 1976 و1978 أو في العامين 1993 و1996.
هناك إذاً ما يشبه السباق مع الزمن بين الحرب المفتوحة والدبلوماسية المغلقة. وهذا السباق يشهد تصورات أميركية - إسرائيلية تواجه تصورات فرنسية - سعودية. فهل مثلاً تبادر أوروبا إلى طرح تسوية شاملة متوافقة مع المشروع العربي للسلام، أم تبادر أميركا إلى الطلب من «إسرائيل» وقف النار وترك تداعيات الحرب تأخذ مداها الداخلي في لبنان، أم تستمر المعارك إلى مكان أبعد (الحرب المتدحرجة) وبالتالي تنفتح المواجهة المحدودة جغرافياً على مجالات إقليمية تتجاوز حدود لبنان؟
كل الأبواب مفتوحة. أميركا مثلاً بدأت بترحيل رعاياها من لبنان، كذلك دول الاتحاد الأوروبي، كندا واليابان... والهيئات التابعة إلى الأمم المتحدة. ويرجح أن تستمر عمليات إخلاء الرعايا الأجانب قرابة ثلاثة أيام. وفي حال لم تتم التسوية الدبلوماسية فمعنى ذلك أن المواجهة ستشهد تصعيداً نوعياً غير متخيل. فالدولة في لبنان عملياً تقوضت في معادلة الصراع الدائر الآن وتحولت إلى هيئة إغاثة. وحتى الآن لم تكشف «إسرائيل» ورقتها السرية. كذلك لم يتبلور موقف واضح سياسياً (غير التأييد المعنوي) من سورية وإيران.
المسألة إذاً ستكون مفتوحة من الآن إلى نحو أسبوع أو نهاية الشهر الجاري. وحتى تكتمل الصورة لا يستبعد حصول الكثير من السيناريوهات منها ما يمكن توقعه ومنها ما يفوق التوقعات
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1415 - الجمعة 21 يوليو 2006م الموافق 24 جمادى الآخرة 1427هـ