يبدو العدوان الاسرائيلي الحالي على لبنان أكثر عدوان «إسرائيل» على لبنان منذ قيامها العام 1948 بشاعة ودموية. وهو أشدها فيما أوقعه من خسائر بشرية ومادية، أصابت لبنان خلال أيام قليلة، إذ غطى القصف الاسرائيلي الجوي والبحري والبري قرى ومدن لبنان المختلفة، وأصاب كثيرا من اللبنانيين، فسقط مئات الشهداء وآلاف الجرحى غالبيتهم من المدنيين ولاسيما النساء والأطفال، ودمر البنى التحتية بما فيها من منشآت اقتصادية وخدمية، تشمل شبكات المواصلات والاتصالات والكهرباء والهاتف وغيرها في إطار عملية تزاوج فيها القصف المنظم والمدروس مع القصف الكيفي والعبثي، ما يعني أن لبنان بشعبه وأرضه متروك بين أيدي القتلة المحترفين وهواة القتل والدمار.
وعلى رغم خصوصيات العدوان الاسرائيلي الحالي في مجرياته وأهدافه، فإنه منسجم مع سياق العدوان الاسرائيلي المعروف في تاريخ «إسرائيل» وعلاقاتها مع العرب. وهو في أحد أشكاله تكرار معقد لعدوان اسرائيلي مازال مستمراً على الفلسطينيين، وسابقاً طال قبلهم الأردنيين والسوريين والمصريين، واللبنانيين، وثمة فصول حدثت في ذلك العدوان تماثل مع ما يحصل اليوم كما في مجزرة بحر البقر المصرية، وشقيقتها داعل السورية، ومجزرة قانا اللبنانية، وفي مجزرة جنين الفلسطينية وغيرها.
غير أن أهم الجوانب في خصوصية العدوان الاسرائيلي الحالي على لبنان، يظهر في البيئة الدولية الراهنة، التي تكاد تنفرد في ردة فعلها حيال كل العدوان الاسرائيلي السابق. إذ كانت ثمة دول وهيئات دولية واقليمية، تتخذ مواقف ضد العدوان الإسرائيلي، وغالبا ما كانت هناك أطراف تذهب في معارضة العدوان لتشكيل قوة ضغط سياسي - وربما عسكري - على «إسرائيل» لوقف عدوانها واللجوء إلى حل سياسي يعالج الجوانب التي تسببت في قيام «إسرائيل» بعدوانها، والأمثلة في تاريخ الصراع العربي - الاسرائيلي كثيرة ومنها ما حصل في لبنان إبان العملية العدوانية المعروفة بـ «عناقيد الغضب».
لقد أظهرت البيئة الدولية من خلال ضعف ردة فعلها حيال بدء العدوان، أن لبنان بلد متروك لمصيره أمام آلة الحرب الإسرائيلية، والأهداف السياسية لعدوانها، التي أعلنها رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود اولمرت، والتي كانت تعني استسلاماً لبنانياً غير مشروط يتجاوز الأسباب المعلنة لبدء الحرب وهي عملية حزب الله ضد الجيش الاسرائيلي، ثم زادت البيئة الدولية تحولها في مواجهة لبنان ولصالح «إسرائيل» وأهدافها، عندما عجز مجلس الأمن الدولي عن اتخاذ قرار بوقف العدوان على لبنان لدى انعقاده لبحث الموضوع، ثم تأكد هذا الاتجاه في قمة الدول الثماني في بطرسبرغ، عندما تبنت القمة المطالب الاسرائيلية من لبنان، وشددت على ضرورة تنفيذ مطالب «إسرائيل» التي وجهتها إلى لبنان مقدمة لوقف العدوان.
لقد أشيع دائماً ان للبنان علاقات وصداقات تساعده، وكثيراً ما جرى التركيز على ان بلداً مثل فرنسا تعطي اهتماماً ورعاية متعددتي الأبعاد للبنان، وأن الولايات المتحدة مهتمة بالوضع اللبناني وتطوره الديمقراطي، ولم تكن إيران أقل اهتماماً بلبنان، وهو اهتمام تجاوز الاهتمام بالعلاقات مع الدولة اللبنانية إلى علاقات قوية مع مستويات سياسية وشعبية وخصوصاً في العلاقة الوثيقة التي تربط الدولة الإيرانية بحزب الله اللبناني، وكانت سورية تزيد على إيران في هذا الجانب، فتتجاوز علاقاتها مع الدولة اللبنانية إلى علاقتها مع جماعات سياسية وأوساط شعبية، وهذه العلاقات تمثل ملامح نسق من علاقات لبنان الإقليمية والدولية، التي كان يقال إنها تدعم وتقوي لبنان، ويمكن أن تساعده على الخروج من مشكلاته، وتقويه في مواجهة التحديات، لكن الحقيقة التي أفرزها عدوان «إسرائيل» الحالي على لبنان، أن كل تلك العلاقات أثبتت ضعفها وعدم صدقيتها، وعدم قدرتها على التأثير الايجابي في الحد من العدوان ومنع توسعه أو وقفه، بل إن غالبية الدول ذهبت من خلال معطيات سياسية إلى تبرير العدوان على لبنان، والتملص من مسئولياتها حيال لبنان وحيال الرأي العام في آن معاً.
ويمكن القول، إن بعض الدول ساهمت في استمرار العدوان وتصعيده، عندما اتجهت إلى عملية إجلاء رعاياها من لبنان، ما يعطي «إسرائيل» حرية أكبر في قتل أكبر عدد، وتدمير أوسع مناطق وقدرات لبنانية، وكان من المؤسف، أن يتوافق سلوك الأمم المتحدة مع سلوك هذه الدول، عندما رفضت القوات الدولية في جنوب لبنان إيواء لبنانيين مهددين بأرواحهم، وتركتهم نهباً لآلة الحرب الاسرائيلية ودمارها، فيما قررت الامم المتحدة إجلاء من وصفتهم بـ «الموظفين غير الاساسيين» في لبنان.
خلاصة القول، إن ما يحدث في لبنان في ظل العدوان الاسرائيلي الراهن يشكل سابقة خطيرة، ليس في العدوان الاسرائيلي على هذا البلد ومحاولة فرض استسلام غير مشروط عليه، وإنما أيضاً من خلال سكوت إقليمي ودولي على ما يجري من قتل ودمار وتهجير، لم يسبق أن حدث مثله، يرقى إلى مستوى التواطؤ مع «إسرائيل» وعدوانها على اللبنانيين
العدد 1414 - الخميس 20 يوليو 2006م الموافق 23 جمادى الآخرة 1427هـ