العدد 1414 - الخميس 20 يوليو 2006م الموافق 23 جمادى الآخرة 1427هـ

بيروت (1) موئل التنوير وأحلام التغيير

عبدالنبي العكري comments [at] alwasatnews.com

ناشط حقوقي

في الوقت الذي تستمر فيه الأعين وهي تتابع الهمجية الإسرائيلية وهي تمزق ست الدنيا (بيروت)، وفي الوقت الذي تابعت فيه بحرقة وألم البربرية الإسرائيلية وهي تعمل في بيروت قصفا وتدميرا، وتمعن في تقتيل أهلها في الضاحية والأشرفية، في المكلس في حارة حريك في الدورة والجناح، مطار الحريري وميناء بيروت، تداعت إلى خاطري صور بيروت التي عشتها وأنا أخطو الخطوات الأولى لسنواتي الجامعية في الجامعة الأميركية في بيروت.

خطوات الحلم وأنا أكتشف عالما جديدا، باريس الشرق كما يطلق عليها، وفعلاً فقد كانت بيروت في الستينات واحة حضارة وسط صحراء التخلف العربي. واليوم عندما تتلاحم الأشرفية مع الغبيري والدورة مع الضاحية فإن ذلك ليس غريباً على بيروت التي مرت عدة مرات بكوارث وحروب خارجية وفتن داخلية لكنهم وبعد كل محنة ينفضون غبار الفرقة ويتوحدون.

بيروت شكلت دائما التحدي لتل أبيب ولبنان شكل دائما تحديا لـ «إسرائيل». فمنذ قيام «إسرائيل» وهي تحاول أن تقنع العالم الغربي بأنها الديمقراطية الوحيدة في هذا الشرق المنكوب بنظم الاستبداد بأشكالها وأنواعها «الثورية» و«المحافظة»، الملكية والجمهورية، العسكرية والمدنية. «إسرائيل» كانت تفاخر دائما بتل أبيب، مدينة حديثة حيوية ومركزا ماليا وتجاريا أقيم على أنقاض قرية صيادين، تل أبيب بسواحلها وفنادقها وملاهيها ومتاجرها، شكلت قبلة السياح الغربيين واعلاناتها الدعاوية تصفعك في مترو الأنفاق في باريس ولندن ونيويورك وفرانكفورت، وفي كل زاوية من الغرب. لبنان وحده، بنظامه الديمقراطي الهش، بحرياته، بصحافته المتنوعة، بنظامه الاقتصادي الناجح، بجماله وخدماته السياحية، شكل دائما التحدي لـ «إسرائيل» وبيروت باريس الشرق، بجامعاتها الحديثة، بأسواقها الغنية بعمرانها الحديث، بمصارفها العالمية، بمسارحها ومراكز الترفيه فيها، بمدينة تسهر حتى الصباح، وتنشط طوال النهار، شكلت البديل لتل أبيب.

إلى جانب كل ذلك، كانت بيروت موئل التنوير العربي في هذا الشرق الغارق في التجهيل، في لبنان أنشئت أول مطبعة عربية، وفي لبنان ظهرت طلائع التنوير العربي على يد البستاني والعلايلي وكرم، وظلت لبنان المطبعة الأولى وناشر الكتاب الأول في العالم العربي، منها انطلقت أفكار التنوير والتحديث، فيها تشكلت التنظيمات العربية الحديثة التقدمية والقومية والاشتراكية، وحركات التغيير وتحرير المرأة.

بيروت كانت موئل المثقفين العرب الحالمين بالتغيير، موئل المناضلين المطاردين من قبل أنظمة الاستبداد من المحيط إلى الخليج، بها أبدع أدونيس والفيتوري والسياب. يوم لم تكن في الخليج جامعة، كانت جامعات بيروت تحتضن طلبة الخليج واليمن، وفي وجود جامعات عريقة على امتداد الوطن العربي، كانت بيروت تحتضن الطلبة الطامحين والمتفوقين في جامعاتها الراقية. لذلك كان خريجو بيروت متميزين. ليس بمعارفهم الأكاديمية فقط، بل بثقافتهم وانفتاحهم.

كانت بيروت ومازالت حلقات حوار ونقاش تدار في مقاهيها، وجامعاتها، ومراكزها الثقافية، وصحافتها الحرة. هي بيروت المدينة العربية الوحيدة، التي يبدأ ساكنها نهاره بقراءة الصحيفة على فنجان قهوة، فلصحافة بيروت طعم الحرية والتنوع والرأي. بيروت احتضنت المناضلين المطاردين حتى من قبل أحزابهم، وبيروت احتضنت قيادات حركة القوميين العرب والبعث والشيوعيين في الستينات، كما احتضنت المقاومة الفلسطينية في السبعينات، وأخيرا المقاومة الوطنية والإسلامية اللبنانية.

دفعت بيروت ثمنا غاليا لذلك، احتلها المارينز الأميركيون العام 1958، وقصفتها «إسرائيل» في حرب 1967، ودمرت مطارها في 1969، وبعد ذلك توالت الاحتلالات والغزوات الإسرائيلية ضد لبنان منذ 1975، وعملت «إسرائيل» على تسعير الصراع الداخلي وادارت شبكات الاغتيالات والتفجيرات، وعلى رغم دحرها وانسحابها من لبنان في مايو/ أيار 2000، فقد ظلت تخطط للعودة إلى احتلال لبنان وتدميره، وتدمير بيروت تحديداً وهو ما تقوم به حاليا.

حقد الصهيونية على البشرية الذين تعتبرهم «أغيار» وحقد «إسرائيل» على كل ما هو إيجابي ومشرق لدى العرب معروف، لكن حقدها على لبنان وعلى بيروت مضاعف. تدرك «إسرائيل» أن ما يقدمه لبنان إلى العالم وصورة بيروت في العالم هو التحدي لها، فلبنان الديمقراطية على علاته، وبيروت الحضارة على تشوهاتها هما ما يقلق «إسرائيل».

في هذه الحرب هناك سبب مهم. لأول مرة في تاريخ الصراع العربي الصهيوني تهزم «إسرائيل» على يد تنظيم عقائدي نجح فيما فشلت فيه الدول العربية مجتمعة. لم تنس «إسرائيل» الاذلال الذي تعرضت له وهي تنسحب من لبنان جارة أذيال الهزيمة. وفي حمأة حرب الابادة التي تشنها اليوم ضد لبنان وعاصمتها (بيروت)، أصاب القادة الإسرائيليين هستيريا، وهم يرون مدنهم ومستعمراتهم تتعرض للقصف، من قبل المقاومة الوطنية الإسلامية، ويقتل جنود الجيش الذي لا يقهر، ويصاب شعب الله المختار بالذعر، وهم الذين خاضوا الحروب دائما خارج حدود «إسرائيل»، وفيما عاش العرب الرعب تكرارا وتكبدوا أفدح الخسائر في الحروب السابقة، فلم يتكبدوا الا القليل من الخسائر.

هستيريا «إسرائيل» تصبها حمما وقنابل ضد بيروت وقتلا ضد أبناء بيروت لكن بيروت هذه المرة عصية عليهم، لن يستبيحوا بيروت كما استباحوها في 1982، فالمعركة تجري أيضا في داخل «إسرائيل» وحزب الله يرد الصاع بالصاع

إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"

العدد 1414 - الخميس 20 يوليو 2006م الموافق 23 جمادى الآخرة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً