حتى الآن لايزال النقاش يدور حول حركة الاستشراق من زاوية العصبية الحزبية وهو أمر يفرغ نقدها من مضمونه التاريخي. فالمسألة ليست أنت مع الاستشراق أو ضده، أو أن للاستشراق فوائده ومضاره، أو سلبياته وإيجابياته.
السجال ضد الاستشراق كحقول معرفة تتجاوز تعارض الـ «ضد» أو الـ «مع». ليست المسألة مع الاستشراق أو ضده، أو أن هناك فريقاً يؤيد الاستشراق وآخر يعارضه. أو أن هناك من هو مع إيجابياته وهناك من هو ضد سلبياته أو العكس.
النقاش المذكور يضع الاستشراق كحقل معرفة ومنهج تحليل في مرتبة مجردة لا عقلانية وكحركة لا تاريخية أو فوق التاريخ. لابد من إعادة الاستشراق إلى الأرض وإخضاعه للنقد كجزء من حركة المعرفة وكنتاج لحركة التاريخ. فالاستشراق في النهاية حركة تاريخية/ معرفية له خصوصيته وفي الآن له دوره ووظيفته وحاجته. وعندما نضع الاستشراق في إطار الحاجة والوظيفة والدور نستطيع آنذاك تفكيكه تاريخياً وتجاوزه إلى مرحلة أعلى ولا نبقى أسرى الانقسام الشكلي بين حزب مؤيد للاستشراق وحزب معارض له.
وظيفة الاستشراق
نبدأ بالسؤال: هل انتهى الاستشراق؟ وبكلام أدق هل انتهى الاستشراق كوظيفة فكرية وكدور تاريخي وحاجة سياسية؟
عندما صدر كتاب إدوارد سعيد عن «الاستشراق» في نيويورك العام 1978 ثارت ضجة في وسط معظم المستشرقين ونعتوه بشتى التهم رداً على مناقشاته التي كشفت الجوانب الاستعلائية في الحقل المعرفي - الثقافي للاستشراق.
لماذا حدثت الضجة؟ لعل الجواب عن المسألة يرتبط أساساً بموضوع نهاية وظيفة الاستشراق والحاجة التاريخية إليه. فسعيد ضرب ضربته في وقت كان الاستشراق يترنح وكان يمر في أزمة تاريخية بدأ يفقد خلالها وظيفته المعرفية والحاجة السياسية إليه. وردة الفعل السلبية على كتاب سعيد تشير بقوة إلى مأزق الاستشراق كاتجاه معرفي في فهم الآخر. فسعيد أقدم على تفكيك تصورات مدارس الاستشراق وكشف آلياتها التاريخية كمنهج معرفة وأسلوب قراءة، لكن وقع الكتاب يتجاوز أهدافه الأكاديمية وتحول إلى قنبلة سياسية انفجرت في لحظة الموات التاريخي للاستشراق.
لم يكن كتاب إدوارد سعيد المحاولة الأولى في نقاش أفكار الحركة الاستشراقية ودحض منظومتها المعرفية. فقد سبقته الكثير من المحاولات في الهند وباكستان وتركيا والدول العربية وخصوصاً في مصر. إدوارد سعيد نجح في تفكيك آلياتها المعرفية وربطها منهجياً بالسياسات الكبرى ومنظوماتها الايديولوجية العامة. وكانت محاولته سابقة في قراءة الاستشراق كحركة قامت على وعي مسبق عن الآخر، الأمر الذي جعله يخوض معركته في الحقول النظرية والأدبية التي انطلقت منها.
إلى ذلك، جاءت محاولة سعيد في سياق أزمة عامة كانت تمر بها حركة الاستشراق الأمر الذي أضاف إلى عمله حيوية زمنية فتحت الباب على قراءات متعددة وضعت المستشرقين في زاوية حادة ونقد موضوعي طاول المعرفة نفسها وليس تياراتها السياسية ومدارسها المتعصبة.
رؤية الآخر
ماذا قال سعيد في كتابه؟ يرى أن الاستشراق شكل من أشكال الاتصال بالشرق ومكانة الأخير في رؤية أوروبا. فالشرق يعني مستعمرات وثروات وممرات ومنافساً حضارياً ويعني أيضاً لغات وثقافات وأدياناً. فالاستشراق له وجهان من جهة مؤسسة أكاديمية تقوم على أسلوب في التفكير أساسه التمييز الانطولوجي والابستيمولوجي بين الشرق والغرب، ومن جهة أخرى هو ساحة للتنافس الدولي ومصدر ثروة ومواقع استراتيجية.
قسّم سعيد حقول الاستشراق. فهناك مجالات الاستشراق وتجاربه الزمنية وموضوعاته الفلسفية والسياسية. وهناك الاستشراق الحديث الذي بدأ في القرن الثامن عشر ونشأت خلاله تصورات مشتركة بين الشعراء والفنانين والعلماء والبحاثة. وهناك الاستشراق المعاصر الذي بدأ في نهاية القرن التاسع عشر (سنة 1870 وصاعداً) وهي حقبة التوسع الاستعماري في الشرق وتنافس القوى الكبرى للسيطرة عليه، وامتدت إلى نهاية الحرب العالمية الثانية حين انتقلت الهيمنة من أوروبا إلى الولايات المتحدة.
ويرى سعيد في تلك المراحل أن الاستشراق كان حدثاً ثقافياً وسياسياً في آن، إذ كان المستشرق ينظر من الخارج وعن بعد إلى الآخر فتأتي كتاباته مجرد تصورات ذهنية وليس صورة طبيعية وصادقة عن الشرق. فتعدد الشرق وفق تلك المدارس والايديولوجيات (الألسنية، الفرويدية، الداروينية، الماركسية... إلخ)، وتحول الاستشراق إلى أسلوب غربي (معرفي) في السيطرة على الشرق وفي تنظيم السلطة عليه وممارستها. وأدى ارتباط المعرفة بالسلطة إلى تكوين تصور عن الشرقي في ذهن الغربي من الصعب كسره إلا بإزالة التناقض بين الشرق والغرب وخضوع الأول للثاني.
بعد كتاب سعيد لم يعد الاستشراق «بقرة مقدسة» على الباحث الشرقي أن يخضع لمسلّماتها، فقد كشف الكتاب أسطوريتها وتزييفها وحطم هالتها الأكاديمية وربطها كمعرفة بالسلطة والهيمنة، وحوّلها إلى حقل معرفي يمكن تفكيكه والتقاط آلياته ومنظوماته الداخلية القائمة على فكرة السيطرة.
أدى عمل سعيد إلى انقسام في صفوف المدارس الاستشراقية، فهناك من رفضه كلياً وهناك من أيّده، وظهر فريق ثالث وافق سعيد على بعض مقدماته التاريخية واستنتاجاته السياسية لكنه تمسك بالاستشراق كمنهج معرفي مستقل وطالب بتجديده وتنقيته وتحديثه لينسجم مع الواقع المركب لعوالم الشرق.
توضيحات رودنسون
يعتبر مكسيم رودنسون (المستشرق الفرنسي الماركسي) من الفريق الثالث الذي يرى في الاستشراق إيجابيات وسلبيات ويعتقد أن مكانة الاستشراق لم تتراجع، وهناك الكثير من المعلومات والمواد القيّمة التي يجب الاستفادة منها وخصوصاً المدارس الكلاسيكية التي وفرت جهودها الكثير من المراجع وتعتبر مصادر موثوقة للبحث والمتابعة في تطوير الاستشراق وتحديثه.
يرى رودنسون أن الأبحاث الاستشراقية «لها قاعدة تاريخية مشتركة» و«تطرح مشكلات مشتركة» وعلى قاعدة «الأصل المشترك يمكّننا التمييز بسهولة بين السمات القومية (...) لكل بلد أوروبي». وكل هذه الخصوصيات «لا تنفي الفكرة القائلة بوجود منهجية علمية مثالية وصالحة كونياً». ويرى أن نظام الفكر المشترك تَشكّل في «القرن التاسع عشر بتأثير من عوامل متنوعة» بعد أن تطوّر البحث العلمي في مجال العلوم الإنسانية.
ويوافق رودنسون على مقولة إن الاستشراق التقليدي اتصف بـ «التواضع المنهجي» إذ «لجأ معظمهم إلى الأفكار العامة المستلهمة من فلسفة تلك الفترة ومن وعيها الاجتماعي». ونتيجة «ظاهرة الانتقائية» سادت أنواع من التفسيرات «الرائجة في لحظة ما». فهناك مثلاً نظرة «اقتصادوية اختزالية» تقرأ ظهور الإسلام عن طريق الاقتصاد وحده كعامل حاسم لحركة التاريخ.
أدى هذا النوع من التفكير الاستشراقي، كما يقول رودنسون، إلى تكوين «معرفي محدود جداً» بسبب تلهف المستشرق إلى التوصل إلى «نتائج عامة». كانوا غير حذرين «في تطبيق النتائج المحدودة لهذه العلوم على مجالات معرفية واسعة» وكانت الاستنتاجات «كارثية في معظم الأحيان». كانوا يسقطون في «المثالية التاريخية» ويستخلصون بالطريقة نفسها تخيلات عنصرية في الأشياء (أشكال الجماجم، الصفات الثابتة للشعوب).
ولا يستبعد رودنسون أن تكون مثل تلك الأبحاث قد انطلقت من تصورات مسبقة، إذ «النزعة المركزية الأوروبية واضحة» في تلك الدراسات من حيث «تنصيب المجتمع الأوروبي والحضارة الأوروبية كنموذج كوني أعلى صالح للجميع». لقد احتفظ المستشرقون من القرن الثامن عشر بمفهوم الحضارات الكلاسيكية المتفوقة على الحضارات الأخرى وقام «تصور جوهراني عن الحضارات نفسها» وأيضاً «تخيلات لاهوتية مركزية».
ويعدد رودنسون نواقص تلك الفترة، منها «ارتباطها بالأفكار العامة الشائعة في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين» وأبرزها: أولوية النموذج الأوروبي وتفوقه، وجود نوع من الجوهرانية العنصرية غالباً، ونوع من المثالية الدينية غالباً. وهي أحكام مسبقة هيمنت على الأوروبيين في تلك الفترة. ويرى «أن الكثير من الأعمال الاستشراقية لتلك الفترة أُفسدت بسبب عدم تأطيرها بواسطة إشكالات علمية صحيحة أو صالحة». وهذا «لا ينفي أهمية الكمية الضخمة من المعلومات التي حصلوا عليها (...) ويمكننا استغلالها ضمن منظور جديد بعد تخليصها من الأحكام العنصرية المسبقة».
ويحاول رودنسون تسويق الاستشراق الحديث بتأكيد فكرة «أن الغرب الحديث خرج كلياً من الدوغمائية الدينية للمرة الأولى»، ويحاول أيضاً أن يفصل بين الاستشراق القديم (التقليدي) الذي نقده بشدة، كما رأينا، وبين الاستشراق الحديث (الجديد) بذريعة أن الغرب تغيّر. ثم يعمد إلى الدفاع عن الاستشراق الجديد اعتماداً على جهود الاستشراق السابق والمستشرقين السابقين «الذين هم في الغالب من الاتجاه المحافظ لا يملكون إلا أن يشعروا بالصدمة بسبب مثل هذه التدخلات الخارجية المتطفلة على مجالاتهم المعرفية» ويبدون الاحتقار «للمجالات المعرفية الجديدة التي ظهرت حديثاً».
صيغة جديدة للاستشراق
محاولة رودنسون تعويم الاستشراق في صيغة جديدة وحديثة تعكس عمق الأزمة التي تمرّ بها مختلف فروع الاستشراق التي أخذت تلاحظ أن وظيفتها ودورها وبنية معرفتها فقدت بريقها السابق وبدأت تنحدر بسرعة إلى المتاحف. لذلك يتحاشى استخدام مفرد الاستشراق ويفضل عبارة الدراسات العربية والإسلامية.
وتعتبر محاولة رودنسون لبعث الروح في الاستشراق وإعادة إحياء منظوماته المعرفية السابقة وتراكمات جهود المستشرقين السابقين في أسلوب حديث ومناهج علمية جديدة من آخر المحاولات التي نهضت لمواجهة التحدي الذي طرحه كتاب إدوارد سعيد عن الاستشراق.
إلا أن محاولة رودنسون تعاني من مأزق كبير يتلخص في الصعوبات الزمنية والميدانية للقيام بمثل هذه المهمات الجديدة، وإذا حصل العمل المذكور (تنقية البحوث الاستشراقية من نزعتها المركزية الأوروبية وعنصريتها وتفوقها على الآخر) وهو أمر يتطلب الجهود والإمكانات والعقول الجبارة، وهذا أمر غير متوافر في الأمد المنظور، فمعنى ذلك أن تأثير نواقص تلك الدراسات الاستشراقية سيستمر إلى أمد بعيد حتى نتوصل إلى تنقيتها من مركزيتها وعنصريتها. وفي اللحظة التي نكون قد توصلنا بعد فترة طويلة إلى تنقيتها من عنصريتها وإطلاقيتها يكون الاستشراق قد فقد وظيفته التاريخية وألغى دوره بنفسه. أي إذا حصلت التنقية المطلوبة وسُدّت النواقص وحُذفت التشويهات وأُلغيت المركزية الأوروبية والعنصرية، لا يعود الاستشراق استشراقاً ويصبح مجرد بحوث ودراسات تاريخية لا تقوم على أساس وظيفة معرفية تؤدي مهمة تاريخية. وهذه مسألة لا اعتراض سياسياً عليها.
الزمن تخطى الاستشراق
نعود إلى السؤال: هل انتهى الاستشراق وظيفةً ودوراً ومهمةً وأخذ الزمن يتخطاه إلى حقول معرفية جديدة وبالتالي صدامات جديدة ومختلفة عن السابق بين الشرق والغرب؟
للإجابة عن السؤال لابد من العودة إلى التاريخ وقراءة منظومة العلاقات التي أفرزت مجموعة قيم وتصورات وتعريفات وتحديدات للآخر تمثلت في المعرفة المجردة وفي السلوكيات القائمة على أساس الاحتكاك أحياناً والتبادل أحياناً والاصطدام أحياناً أخرى.
يحاول رودنسون أن يضع تفسيره الخاص لفكرة الاستشراق فهو يرى أنها بدأت انطلاقاً من الرغبة في توسيع النزعة الإنسانية التي كانت تقتصر على دراسة الحضارات الإغريقية - الرومانية لتشمل حضارات كلاسيكية أخرى، وهي نزعة ظهرت في القرن التاسع عشر وتشكل ردة فعل «ضد كونية القرن الثامن عشر التي كانت تركز على القيمة الكونية للنموذج الإغريقي - الروماني». أي أن رودنسون يرى في مسألة التوسيع مجرد نزعة معرفية مخلصة ولا يرى فيها عناصر أخرى تقوم أصلاً على الحاجة قبل حب المعرفة، والوظيفة قبل روح المغامرة. ويلاحظ أيضاً «تأثير العلاقات العملية المحسوسة التي أُنشئت مع الشرق الإسلامي» لكنه لا يقرأ مضمون تلك العلاقات المحسوسة التي سادت فيها نزعة الغلبة العسكرية - الاقتصادية وما رافقها من نظرة التفوق على الآخر الأقل تطوراً.
فهل المسألة مسألة معرفية وتطور مناهج المعرفة أم أنها مسألة سياسية وتطور مناهج السيطرة السياسية؟ لابد إذاً من العودة إلى التاريخ لقراءة العلاقة بين «الشرق» و«الغرب» وتطورها من محطة إلى أخرى، وهو أمر يرد على مسألة تجاوز الاستشراق ونهاية عصره
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1414 - الخميس 20 يوليو 2006م الموافق 23 جمادى الآخرة 1427هـ