إن صدقت نبوءات الثورة البيوتكنولوجية فإن العالم سيتغير بصورة كبيرة خلال العقود القليلة المقبلة، ويذكر فرانسيس فوكوياما أن هذه الثورة ستؤثر في السياسة بأكثر من طريقة، وستمثل إطالة عمر البشر تحدياً حقيقياً في السياسة، لما سيحدث نتيجة لذلك من تغيرات «ديموغرافية واجتماعية» (نهاية الإنسان، ص 96). ويذكر أن من بين أكبر إنجازات الطب بالولايات المتحدة في القرن العشرين رفع الأجل المتوقع عند الولادة من 48,3 سنة للرجال و46,3 سنة للنساء في العام 1900 إلى 74,2 سنة للرجال و79,9 سنة للنساء في العام 2000. ويخلص إلى أن هذا التحول، وما ترافق معه من انخفاض حاد في معدل المواليد في الدول المتقدمة، سيجعل العالم يختلف اختلافاً جوهرياً في العام 2050.
وما يشير إليه فوكوياما بخصوص الولايات المتحدة الأميركية صار اليوم حقيقة في معظم دول العالم، فقد كان الأجل المتوقع في معظم التاريخ البشري يقع في أربعينات العمر أو خمسيناته، وارتفع اليوم إلى 66 عاماً، ويتوقع أن يرتفع إلى 76 عاماً في العام 2050. وذلك بفضل تطور الطب وتقدم الخدمات الصحية. وهذه واحدة من أهم المنجزات الحيوية للحداثة. غير أن ما أريد مناقشته هنا هو ذلك البعد الفصامي (الشيزوفريني) في منجزات الحداثة فيما يتعلق بالسياسات الحيوية scitilop-oib أي أشكال الإدارات والتدخلات الانضباطية التي «تدخل الحياة وآلياتها في ميدان الحسابات الواضحة» (إرادة المعرفة، ص 144) على الجسم الحي وعموم حياة البشر البيولوجية: تكاثر، ولادات، وفيات، زواج، صحة عامة، الأجل المتوقع، السكن، الهجرة، قوة العمل... إلخ.
إدارة الجسد والتنظيم الحسابي
وسبق أن ذكرت أن تاريخ الممارسات الحيوية في البحرين لم يعرف اهتماماً مركزاً على إدارة الجسد والتنظيم الحسابي لمجمل عملياته الحيوية إلا مع بناء الدولة الحديثة في البحرين. فمع بناء الدولة دخلت حياة الناس في مدار التنظيم الحسابي، وصارت نفوس الناس وأجسامهم وعملياتهم الحيوية موضوعاً للمراقبة والرصد والإحصاء، وذلك من أجل التمكن من السيطرة عليها والتحكم فيها واستثمارها بصورة نافعة على أكمل وجه.
وما كان لهذه الدولة أن تقوم بهذه المهمة التاريخية إلا من خلال إنشاء أجهزة ومؤسسات وأدوات تقوم بإدارة هذه النفوس وتنظيمها. وحين تصل هذه الأجهزة الانضباطية إلى مرحلة متقدمة من الكفاءة فإنها تعمل كأدوات إنتاج دائمة لصنع مواطنين منضبطين لا بقوة العنف المكشوف ولا حتى بقوة القانون وتدخلات الأجهزة القضائية الملزمة، بل من خلال الانخراط الطوعي - أو هكذا يبدو - من قبل الأفراد في المسار الثابت والمتصل الذي تتعهده أجهزة الدولة وأدواتها الانضباطية. وفي هذا السياق يلاحظ فوكو أن النتيجة المترتبة على نمو السلطة البيولوجية هي الأهمية المتزايدة التي اتخذتها لعبة المعيار - الضابط على حساب النظام الشرعي للقانون، وليس معنى هذا «أن القانون يمحي من الوجود أو أن المؤسسات القضائية تميل إلى الزوال؛ بل إن القانون يعمل أكثر فأكثر كمعيار ضابط، وإن المؤسسة القضائية تندمج أكثر فأكثر في مجموعة أجهزة (طبية، إدارية... إلخ) ذات وظائف ضابطة بوجه خاص. إن مجتمعاً ضابطاً هو النتيجة التاريخية لتكنولوجيا سلطوية مركزة على الحياة» (إرادة المعرفة، ص 146).
التحكم في مسارات الأفراد
وبفضل هذه التكنولوجيات السلطوية المركزة على الحياة صارت الدولة قادرة على التحكم في مسارات الأفراد وتنظيم عملياتهم الحيوية بصورة متفردة ومتجردة قدر الإمكان حتى من قوة القانون، وتظهر دلائل ذلك في سياسات الدولة الحيوية فيما يتعلق بسن الزواج، ومعدل الخصوبة، والوفيات. فلم تكن الدولة، على سبيل المثال، بحاجة في يوم من الأيام إلى إلزام الأفراد بالزواج في عمر بين (20 - 29) لا بقوة العنف ولا بقوة القانون، كما أنها لم تكن بحاجة إلى تقييد حرية الأفراد في الإنجاب لتلزم الجميع بإنجاب ثلاثة أولاد فقط لا بقوة القانون ولا بقوة العنف بل بقوة خفية يستسلم لها الأفراد دون إرادة منهم وذلك بعد أن ينخرط الجميع، طائعين، في شرك الالتزامات الانضباطية منذ الانخراط في مسار التعليم الذي يبدأ من عمر السادسة لينتهي عند السابعة عشرة؛ لتبدأ بعد ذلك دورة الانخراط الثاني والأطول في الوظيفة بين عمر (18 - 60). وبعد هذا سيصبح الجميع، وبصورة تلقائية، عاجزين عن الزواج إلا في سن الثامنة عشرة أو يزيد، وعاجزين عن إنجاب أكثر من 3 أولاد (معدل الخصوبة الكلية للمرأة البحرينية هو 3,1 في العام 2003 بعد أن كان المعدل يتراوح في السبعينات بين 5 و 4,5). والعجز هنا ليس عجزاً ذاتياً بيولوجياً بل هو عجز خارجي طارئ إلا أنه متحكم ولا فكاك للمرء منه بسهولة، وهو متحكم بقوة أكثر في الأفراد الانضباطيين، ولهذا ليس غريباً أن تكون نسبة الخصوبة لدى هؤلاء أقل من غيرهم، وهو ما لاحظه منذ السبعينات فؤاد خوري حين كتب أن «الفئة التي تتصف بخصوبة قليلة، نحو 2,8، هي المجموعة التي تجمع بين التحصيل العلمي المرتفع (شهادة ثانوية وما فوق) والدخل المرتفع نسبياً» (القبيلة والدولة، ص 231)، وهؤلاء هم البحرينيون الانضباطيون ممن اشتغلت عليهم أجهزة التعليم حين كانوا طلاباً، وأجهزة العمل حين توظفوا في القطاع الخاص أو العام. وبحسب خوري فإن هؤلاء هم «الجيل الثاني لطبقة المثقفين وأصحاب المعاشات العليا نسبياً» (ص 231)، أي انهم الجيل الثاني من البحرينيين الانضباطيين بحكم أن الجيل الأول كان مخضرماً ويتوزع في انتمائه إلى عالمين: عالم ما قبل الدولة وعالم ما بعد الدولة.
تطوير أجهزة الانضباط
وكما تمكنت الدولة من إخضاع إرادة الزواج - ومن ثم إرادة التكاثر - لقوة الانضباط العابرة للأفراد، فإنها تمكنت كذلك من تطوير أجهزة انضباط مركزة هذه المرة لا على الحياة وإدارة شئونها، بل على الموت. وهنا لا أقصد الموت الفردي الذي توقعه الدولة على الأفراد بصورة مشروعة قانونياً كما في عقوبة الإعدام للمجرمين، ولا حتى القتل الجماعي الذي تقوم به الدولة ضد الخارجين على النظام والمنتهكين للقوانين، ولا حتى تلك الأعداد التي تموت في حرب من الحروب أو في انتفاضة من الانتفاضات، بل ما أعنيه هو الموت العمومي الذي يمنى به الأفراد المنضبطون حال انتهاء فترة الانتظام الطويل في مسار الانضباط والتنميط العام. ومع هذا النوع من الموت غير المتعمد والمنتشر تظهر أهمية مرحلة التقاعد بعد 60 عاماً من الخدمة والانتظام في مسار الانضباط المتصل والطويل. وهذه مفارقة حقيقية تعرفها كل أجهزة الانضباط العمومية، إذ كيف يمكن لأي جهاز أن يمارس الموت وهو في الوقت ذاته يضمن الحياة ويدير شئونها؟ والمفارقة هي أن الدولة لا تمارس الموت إلا من أجل الحياة، فعقوبة الإعدام يمكن تفسيرها من خلال التذرع بوحشية المجرم الذي يمثل خطراً على حياة الآخرين، وبالطريقة ذاتها يمكن تفسير موت الأفراد في الحروب والمعارك من خلال التذرع بجلال الموت من أجل حياة الآخرين، لكن كيف يمكن تفسير الموت المنتشر بين من هم في عمر 65 فأكثر؟ من أجل أي نوع من الحياة يموت هؤلاء بصورة منتظمة ونمطية؟
الموت بانتظام
هذه مفارقة لم تكن مكشوفة لا لكون الناس لم يكونوا يكترثون بإحصاء وفياتهم والتبليغ عنها لدى سجلات الصحة فحسب، بل لأنهم لم يكونوا يموتون كما هم اليوم بانتظام وتنميط (أية مفارقة هذه التي جعلت حتى الموت منتظماً ونمطياً؟). وقبل الدخول في مناقشة هذه المفارقة على مستوى السياسات الحيوية في البحرين فإننا نقف على ما تنطوي عليه الاحصاءات الرسمية من مؤشرات يوضحها هذا الجدول الذي استخلصناه من الاحصاءات الرسمية في الأعوام (2000، 2001، 2002، 2003):
وقبل كل شيء ينبغي التذكير بحقيقة أن منجزات الحداثة في مجال السياسات الحيوية في البحرين كما في أي بلد آخر، كانت تتحرك في اتجاهين متعارضين: الأول يسير في اتجاه رفع الأجل المتوقع للبشر، والثاني يسير في اتجاه عكسي تماماً. ما يخلق تجاذباً حاداً لا تسلم منه إلا فئات محدودة أتيحت لها الفرصة للاستفادة من منجزات الحداثة الطبية والصحية، ولكنها استطاعت أن تنقذ نفسها من التورط في شبكات الاتجاه الثاني الذي ينتهي بوقف حياة البشر عند عمر معين. وبالنسبة إلى البحرين فإن الاتجاه الأول يتمثل في ارتفاع الأجل المتوقع للحياة عند الميلاد من 58 سنة في الفترة بين (1965 - 1971) إلى 74,5 سنة في العام 2001. ويرجع كتاب الإحصاء الرسمي هذا الارتفاع إلى ما شهدته البلاد من تطور كبير في مجال الطب والخدمات الصحية. أما الاتجاه الثاني فيتمثل في حقيقة أن معظم البحرينيين يموتون بعد التقاعد وتحديداً عند عمر 65 فأكثر. والجدول أدناه يوضح أن معظم الوفيات تحدث في هذا العمر، ولهذا تكون نسبة هذه الفئة من البحرينيين ضئيلة جداً، فهي لم تتجاوز في أربعة أعوام متتالية 3,7 في المئة من بين العدد الكلي للمواطنين البحرينيين. والحق أن نسبة هذه الفئة من الناس صارت اليوم موضع تركيز عالمي متنام، وصار ينظر إلى رفع هذه النسبة بدرجة أو درجتين على أنه إنجاز مهم. ويذكر أن نسبة من هم فوق الـ 60 في العالم كانت 8 في المئة في العام 1950، وارتفعت إلى 10 في المئة في العام 1999، ويتوقع أن تصل هذه النسبة إلى 21 في المئة في العام 2050. وبلغة الأرقام يوجد 629 مليون شخص عمره فوق الـ 60 في العام 2002، ويتوقع أن يصل عددهم إلى 2 مليار في العام 2050 (The New York Times Almanac 2005, P469.) .
مؤشر على التقدم
وبناء على هذه الحقائق صارت نسبة هذه الفئة من الناس بمثابة المؤشر الدال على ما بلغته الدولة من تقدم، وخصوصاً إذا عرفنا أن هناك تبايناً دالاً في نسبة هذه الفئة من الناس بين الدول المتقدمة والدول النامية. ويكفي أن نذكر هنا أن نسبة من هم في عمر 65 فأكثر في ألمانيا قد بلغت 17 في المئة، وفي إيطاليا 18,6 في المئة، وفي أميركا 12,6 في المئة، وفي بريطانيا 15,8 في المئة، وفي اليابان 18 في المئة، وفي فرنسا 16,3 في المئة، وفي أستراليا 15,4 في المئة، وفي كندا 12,9 في المئة، وفي الدنمارك 14,9 في المئة. في حين أنها في أفغانستان 2,8 في المئة، وفي أنغولا 2,8 في المئة، وفي بنغلاديش 3,4 في المئة، وفي كمبوديا 3,5 في المئة، وفي جيبوتي 2,9 في المئة وفي مصر 3,86 في المئة، وفي اثيوبيا 2,8 في المئة، وفي السعودية 2,8 في المئة، وفي التشاد 2,8 في المئة! (كل النسب مأخوذة من: ( The World Almanac 2004)
ثم إن ضئالة هذه الفئة في البحرين هي التي تجعل نسبة إعالة الشيخوخة في البحرين لا تتجاوز 6,2 في المئة طوال 4 سنوات متتالية. والسبب أنه ليس هناك الكثير من الكبار في السن والمعمرين العاجزين ممن هم بحاجة إلى الإعالة. وفي المقابل فإن نسبة إعالة الطفولة بلغت 73,1 في المئة في العام 1991، و61,1 في المئة في العام 2001، و60,1 في المئة في العام 2003
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 1413 - الأربعاء 19 يوليو 2006م الموافق 22 جمادى الآخرة 1427هـ