في العام 1913م صدر كتاب «مقالات في علم اللغة» للعالم السويسري فرديناند دي سوسير، وكان هذا الكتاب الذي صدر بعد موته حدثاً ثقافياً دشن رؤية مغايرة لعمل اللغة وعلاقتها بالقارئ، إذ أوضح في مقالاته أن العلاقة الدلالية بين الدّالّ أو الإشارة وبين المدلول تمر عبر الصورة الذهنية وليس للمدلول مباشرة أو بتعبير آخر للشيء الخارجي، ويعد هذا الحدث مرتكزاً ارتكزت عليه المدارس النقدية والفلسفية في تعاملها مع الوقائع اللغوية مع بعض الاختلافات التي بلورتها كل مدرسة مع ما يتلاءم بنيوياً مع باقي أدواتها المعرفية، حتى توالت المدارس ليدشن الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا من خلال المنجزات الدلالية والنقد البنيوي عند أبرز أعلامه كرولان بارت وغيره مفهوماً آخر ارتبط بمقولة الحقيقة...
الإشارة واللعب الحر
عند دريدا ارتبطت الإشارة بمفهوم اللعب الحر في فضاء النص، ودشن القطيعة الكبرى مع منتج النص/ الكاتب، وأصبح القارئ هو المنتج الحقيقي لدلالات النصوص المقروءة، ومن هنا أصبح القارئ ينتج دلالاته التي تمثل حالاً من الغياب المحكومة ببنية النص، ما نتج عن هذا زحزحة لمفهوم الحقيقة التي صيرها دريدا مقولة بشرية سميولوجية بعد أن كانت الحقيقة ذات بنية لاهوتية كما هي بنية الحقيقة في العقل الديني اللاهوتي بجميع تجلياته، وانتقل بها من مقولة نص الحقيقة إلى مقولة حقيقة النص.
الحقيقة والدلالة
هذه المفاهيم تقودنا لفحص الفكر الإسلامي المعاصر بجميع تجلياته المذهبية من خلال التعامل مع الحقيقة وعلاقتها بالدلالة ومفاهيم السيمولوجيا، فالنصوص التأسيسية تمثل عند مقاربتها بهذه المفاهيم دالاً، هذا الدال قد انتجت حقيقته في العصور الإسلامية الأولى وما عاد المسلمون بجميع تجلياتهم يبحثون عن الحقيقة سوى في التاريخ وفي قراءاته المنتجة فيه، فقراءتنا للنصوص التأسيسية يمر عبر النصوص الثانوية التي انتجت لقراءة تلك النصوص، وهذا يعد مؤشراً كبيراً على أن المسلمين يعيشون خارج دائرة التاريخ والفكر، فالحقيقة بالنسبة اليهم قد أنتجت سلفاً وما على المسلم إلا أن يجتهد للوصول للحقيقة التي أنتجها التاريخ الكلاسيكي في عصوره الأولى أو بعبارة المسلمين في تعبيرهم عن هذه الحقيقة / الفرقة الناجية، أي أصحاب الحقيقة، ومن يتفحص واقع هذه القراءات المنتجة يجدها فقيرة معرفيا إذا ما قورنت بمنجزات الحداثة الفكرية التي بلورتها الثورة الفرنسية بعد أن اكتملت صيغة التنوير عند روسو وفولتير في شكل هذه الثورة.
جهود بارزة
ومن يدرس الفكر الإسلامي الحديث يجد الجهود البارزة عند أعلام النهضة لتفكيك هذه الحقيقة عند فرح أنطون أو شبلي الشميل تمثيلاً لا حصراً، أو توسيع دائرتها كي تتم عملية التوفيق بين المنجز الغربي وبين الحقيقة الإسلامية عند محمد عبده تمثيلاً أيضاً... وفي العام 1967م وبعد فشل المشروع القومي الوحدوي انجرحت الذات العربية في عمق هويتها وأصيبت بحال من العجز تمثلت في الارتداد نحو الماضي والتاريخ لعلها ترمم ما انجرح من جراء النكسة، وشحن التاريخ بكثافة رمزية صيرت هذا التاريخ مقدساً متعالياً، ومنذ تلك المرحلة تكاثف الإنتاج الأصولوي الإسلاموي، وما عادت الحقيقة سوى حقيقة التاريخ، وتكثافت الدعوات لدولة الخلافة وحاكمية الله والجهاد في مقابل الشيطان الأكبر ودولة الكفر والانحلال وتصعدت مشاعر الغضب ضد الغرب...
الخروج من التاريخ
منذ عام النكسة أصيب الفكر الإسلامي بأشد أنواع الخروج من دائرة التاريخ الحديث، فالحقيقة تكمن كما الهوية في استعادة هذا التاريخ... تاريخ عصر الخلفاء الراشدين عند السنة أو تاريخ عصر الإمام علي عند الشيعة، كما أن الهوية تكمن في استعادة هذا التاريخ كما هو، وهذا يحيلنا لمفهوم الهوية التي يراها المسلمون منجزة في حين أن الهوية هي في المستقبل، أي ليست وراءنا بل هي أمامنا على حد تعبير أدونيس وتتحقق فعالية الفكر الإسلامي في ملاحقة هذه الهوية وليست في استعادتها، أي في عملية انتاج حقيقتنا الخاصة وليست في استعادة هوية تاريخنا..
العدد 1413 - الأربعاء 19 يوليو 2006م الموافق 22 جمادى الآخرة 1427هـ