إنني في هذه السطور أدعو القارئ أن يتملى معي ما تورده كتب التاريخ عن علاقة أهل الصين بأهل الأرض الآخرين، في العام رفع حاكم إقليم قوانقشو«كانتون» وكان يومئذ أكبر وأهم مركز تجاري ومالي في الصين وحتى يومنا هذا لا يزال يحتفظ بهذا المركز المرموق مع ظهور مراكز أخرى مهمة أيضاً. إذاً رفع كتاب إلى إمبراطور الصين آنذاك يتضمن ضرورة وضع رقابة على الأجانب الذين يزورون الصين ويستعينون بمترجمين صينيين لإنجاز معاملاتهم التجارية. ولكن لوحظ أن تاجراً أوروبياً هو جميس فلنت يتقن لهجة بكين الصينية واللهجات المحلية الأخرى اتقاناً طيباً. والأدهى من ذلك أنه يجيد لغة الكتابة أيضاً. كما أن أوروبيين آخرين من أمثاله أتقنوا اللسان الصيني وقد تم ذلك سراً على أيدي خونة صينيين وأنه يجب ألا يتقن هذا إلا أهل الصين. ودعا هذا الحاكم إلى منع هؤلاء الأوروبيين الهمج غير المتحضرين من الاختلاط بالصينيين المتمدنين كما نادى باتخاذ جميع الاحتياطات لمنع حدوث هذه الأمور التي تمس سيادة الصين وأمنها وسلامتها. ويفسر المؤرخون هذا بأنه رد فعل طبيعي على المستعمرين الأوروبيين الذين بدأوا يغيرون على سواحل الصين. وقد تم ذلك في عهد أسرة مينتغ -. في العام بعثت بريطانيا العظمى أول سفير لها إلى بلاط أباطرة المانشو وهو السفير ماكارتني. وعندما علم الإمبراطور بنية بريطانيا تعيين سفيراً لها. زادت دهشته واستغرابه بل وتساءل أن الصين لم تطلب من بريطانيا ذلك. وقرر هذا الإمبراطور أن يكون اتصاله به على أقل مستوى ممكن وفي العام أوفدت بريطانيا سفيراً آخر إلى بكين هو اللورد امهرست لإقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين. إلا أن البعثة فشلت تماماً. وعلى أثر ذلك صدر قرار من بلاط تشنيغ الإمبراطوري يمنع وصول أي مبعوثين أجانب إلى بكين. وأن استقبالهم والترحيب بهم من قبل عرش الإمبراطور معناه الإذعان والخضوع للقوى الأجنبية المترصدة والمتربصة بالصين. ولا بأس من العودة ثانية إلى السفير البريطاني ماكرتني وقد شرف الديار الصينية بمقدمه الكريم وجلال قدره وهكذا خيل له عندما وطأت قدماه أرض الصين. وعند وصوله إلى سواحل الصين كان في انتظاره موظف صغير من البلاط الصيني وقد استقل معه قارباً صغيراً إلى بكين العاصمة الإمبراطورية وأثار انتباه هذا السفير لافتة صغيرة مثبتة في مقدمة القارب. كان قد استشاط غضباً وعصبية لهذا الاستقبال الفاتر وغير اللائق بسفير صاحب الجلالة ملك بريطانيا العظمي. وفي لهجة غاضبة وغير مهذبة وآمرة سأل مرافقه؛ ماذا تعني هذه العبارة الصينية وما فحواها؟ وقد أجابه مرافقه بهدوء عجيب وبرودة أعصاب أعجب لا يقوى عليها إلا أهل الحضارات العظيمة أمثال هذا الصيني البسيط عندما يتقمصون شخصية أهل الحكمة والصبر والعزم ولا أقول البلادة والمسكنة وهذا ليس بغريب عليهم ومن ثم يقومون بتأدية الأدوار المنوط بهم القيام بها على أحسن وجه وأكمل سبيل، وقد أجاب هذا المرافق ذو الرتبة المتواضعة جداً بأن العبارة الموجهة إلى معاليكم الكريم تشير إلى أن أحد البرابرة الحمر جاء يحمل الجزية وهو صاغر إلى إمبراطور الصين العظيم وهو يقف بين يديه الكريمتين، كانت هذه الإجابة من شأنها أن تهد جبلاً فما بالك بسفير بريطانيا العظمى وهو مغلوب على أمره ويجهل لغة القوم في ديار الغربة ولكن لا أظن أنه يجهل تاريخ هذه البلاد وحضارتها الزاهرة. كانت هذه العبارة المهينة لجناب ومقام السفير الكريم مدعاة إلى غضبه وسخطه. وقد أرسل تقريراً إلى حكومته شارحاً ما تعرض له من إهانات وتجاهل بل وإذلال وحثها على إعلان الحرب على الصين. وقد بقي في الصين بعض الوقت منسياً ومهملاً ويقال إنه أدمن تعاطي أفيون الكيف والمزاج. والذي جلبته بلاده للصين لإلهاء الصينيين وتخديرهم. ليسهل استعمارهم ونهب مواردهم وخيراتهم . كما أدمن أشياء أخرى لا داعي لذكرها في هذا المقام وهي مبثوثة في كتب التاريخ ومتونها. هذا الحادث ذكرني بما حدث لأول سفير بريطاني وهو يمثل أمام إمبراطور الصين ليقدم أوراق اعتماده. إنه السفير ماكارتني حدث هذا منذ أكثر من مئتي سنة. لقد كان هذا السفير قليل الحظ مايل البخت كما يقول أشقاؤنا في مصر. وكلنا يذكر اسم حفيدة بول مكارتني مغني فرقة البيتلز أو الخنافس انه طيب الصيت والبخت معاً والذي طالما شنف آذان مستمعيه في حقبة الستينات وسنوات الشباب الغارب في القرن العشرين الماضي. وقد طبقت شهرته الآفاق آنذاك وعرف مع صحبه بفرقتهم الذائعة الشهرة بأغانيها الصاخبة وذلك في بداية نجوميتهم في مطلع الستينات. وكان في باب البحرين مقهى ريفولي تدور أشرطته واسطواناته بأغاني البيتلس تلك. وفي الختام نحن العرب ننسى الغرب وثقافته وحضارته المتحيزة تجاه حضارتنا وتاريخنا بل ووجودنا. ففي أعقاب الحرب العالمية الأولى وبعد انهيار الدولة العثمانية تحديدا في زرع هذا الغرب الأوروبي ربيبته «إسرائيل» والتي أنشئت العام لتكون سيفا مسلطا على رقابنا وعلى هويتنا بل وتقدمنا واستعمل في حرب الخليج الأولى والثانية قنابل ذرية صغيرة وهو مستمر الآن في دعمه لـ «إسرائيل» ومن ناحية أخرى ألقت أميركا قنبلتين ذريتين على اليابان ولم تلقى قنبلة ذرية على ألمانيا لإنهاء الحرب العالمية الثانية إنه الكيل بمكيالين. وما أحوجنا نحن العرب اليوم أن نكون أكثر وحدة وتعاونا بدل أن نكون أكثر تباعدا وتناثرا ونحن نواجه هذه التحديات والأخطار المحدقة بنا من كل صوب وجانب
إقرأ أيضا لـ "حسين راشد الصباغ"العدد 1413 - الأربعاء 19 يوليو 2006م الموافق 22 جمادى الآخرة 1427هـ