ماذا تريد «إسرائيل» من سياسة التدمير المنهجي والمبرمج للدولة اللبنانية؟ وما الخطة التي تتصورها حكومة إيهود أولمرت من وراء الحرب المفتوحة تحت سقف ذريعة إطلاق سراح الجنديين؟
حتى الآن تبدو الأمور غير واضحة باستثناء تلك التصريحات العشوائية والمتعارضة التي يطلقها بين الفينة والأخرى بعض وزراء الحكومة الإسرائيلية. فالتصريحات غير موحدة أو على الأقل غير متفقة على سيناريو واضح المعالم. فهناك من يرفض فكرة تبادل الأسرى، وهناك من يقبل بها جزئياً، وهناك من يضغط باتجاه وقف إطلاق النار والقبول بالتبادل.
هناك إذاً مواقف «إسرائيلية» وهي في مجموعها تماطل لكسب الوقت مستفيدة من الدعم الأميركي والصمت الأوروبي والغياب العربي.
هذه الحرب المفتوحة التي بدأت في 12 يوليو/ تموز الجاري تبدو أكثر شراسة وهمجية من تلك التي أعلنت على لبنان في 6 يونيو/ حزيران 1982. فالحرب الجارية وقائعها على الأرض غير محددة الأهداف وتختلف عن تلك التي وقعت في العام 1982.
الاختلاف يمكن قراءة عناصره في أكثر من وجه. فمن الناحية الدولية كان العالم آنذاك ينقسم إلى معسكرين، وشكّل الاتحاد السوفياتي قوة ضغط على الولايات المتحدة ومنعها من الإفراط في تطوير هجومها. ومن الناحية العربية توحدت دول الجامعة على موقف مشترك على رغم أن مصر كانت آنذاك خارج المنظومة العربية. ومن الناحية المحلية كان لبنان يعاني من حرب أهلية استفادت «إسرائيل» من تناقضاتها للتدخل العسكري ولكنها فشلت في تسجيل انتصار سياسي بشأنها. وإقليمياً كان الجيش السوري موجوداً في لبنان بغطاء دولي/ عربي وهذا ما وفر حالاً من الممانعة وخصوصاً عندما حاولت القوات الصهيونية التقدم باتجاه طريق الشام والسيطرة على عقدة المديرج في الجبل وموقع السلطان يعقوب في البقاع. ففي تلك المرحلة حصلت مواجهات برية - جوية أوقفت سورية فيها الهجوم الإسرائيلي في حدود معينة ومنعته من التقدم العسكري لقطع طرق الإمدادات والنقل.
في حرب 1982 كان لبنان يملك مجموعة من الأوراق القوية التي استخدمها للحدّ من النتائج الكارثية للاجتياح الصهيوني. فآنذاك أسهم التدخل السوفياتي/ العربي في الضغط على إدارة رونالد ريغان الجمهورية. واضطر ريغان ونائبه جورج بوش (الأب) إلى تغيير وزير الخارجية الكسندر هيغ واستبداله بالوزير جورج شولتز. وكان التبديل آنذاك إشارة من إدارة واشنطن تظهر استعدادها لتليين موقفها لمصلحة اللوبي النفطي الذي يمثله بوش ولوبي الإنشاءات (شركة بكتل العقارية) التي يمثلها شولتز. بعد ذلك أقدم ريغان (زعيم ومؤسس تيار المحافظين الجدد) على إرسال المبعوث فيليب حبيب (لبناني الأصل) للاتصال بالجهات المعنية لترتيب حل دبلوماسي للمسألة.
هذا التدخل الدولي/ العربي أعطى لبنان فرصة للتحرك الداخلي. واستفادت الحكومة من القرار 425 كإطار عام لتشكيل حماية لسيادته وأرضه ومياهه. فالقرار الدولي آنذاك أعطى مساحة للتحرك الرسمي ضد العدوان بصفته يتعارض مع إرادة مجلس الأمن.
وفي ضوء هذا الحراك الدولي - العربي - اللبناني أمكن ضبط الانفلات العسكري من دون تنجح الدولة في وقف الهجوم ومنع حصار بيروت ووقف قصف المخيمات والأحياء وضرب البنى والمرتكزات والمؤسسات الحيوية التي تحتاجها لممارسة دورها.
آنذاك تذرعت حكومة مناحيم بيغن بمحاولة اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن للبدء في الهجوم. ولكن الهجوم حدّد سلسلة أهداف واضحة منذ يومه الأول، وهي: حماية الجليل من الصواريخ الفلسطينية، إخراج القوات الفلسطينية من لبنان، وإيجاد تسوية للصراع الحدودي بين البلدين.
حددت «إسرائيل» أهداف هجومها في الإطار الفلسطيني. وبسبب هذا الوضوح في أهداف الحملة العسكرية تركز الضرب المنهجي على المواقع العسكرية الفلسطينية وبعض المخيّمات وتلك المناطق المدنية التي كانت تنتشر فيها الفصائل والمنظمات المتحالفة مع جيش التحرير وعناصر المقاومة الفلسطينية.
الهجوم في 1982 اتبع سياسة التفرقة بين اللبنانيين والفلسطينيين وحاول قدر الإمكان تجنب تدمير المناطق المدنية اللبنانية واكتفى بتوجيه ضربات محدودة لبعض القرى والمدن والأحياء حتى لا ينهض اللبنانيون ضد الاجتياح. كذلك اعتمد الهجوم الإسرائيلي على تلك الانقسامات السياسية التي كانت تحيط بالقوى اللبنانية وتجنب توسيع دائرة القصف مراهناً على الشقاق الداخلي. وأدى هذا التمييز بين المناطق إلى تغذية ذاك الاتجاه اللبناني المعادي للفلسطينيين، إذ اعتبر أن العدوان ربما يساهم في مساعدة البلد على تجاوز محنته الداخلية وتوفير غطاء دولي/ عربي لإعادة بناء الدولة.
حتى عندما طوّقت القوات الصهيونية العاصمة حاولت قدر الإمكان التلاعب بالعلاقات الأهلية فاكتفت آنذاك بعزل بيروت الغربية وقطع الكهرباء والمياه عنها وأخذت تضغط دولياً وإقليمياً ومحلياً على فكرة واحدة وهي إخراج قوات منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت كشرط لوقف إطلاق النار والانسحاب من لبنان.
استخدمت حكومة بيغن/ شارون آنذاك كل الشعارات المخادعة والزائفة لتمرير مشروعها السياسي وتلخص آنذاك بضرب البنية التحتية لمنظمة التحرير وإخراج ياسر عرفات وقيادته من بيروت. وهذا ما حصل بعد حرب طويلة امتدت على مدى ثلاثة أشهر.
الآن تبدو الحرب مفتوحة على احتمالات غامضة. الأهداف هذه المرة لبنانية، والتدمير يشمل كل المناطق اللبنانية من دون تمييز وإن تركز معظمه على مساحات واسعة في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية من بيروت. والذريعة التي اتخذتها «إسرائيل» في العام 1982 تختلف عن ذريعة حرب 2006. فالعدوان الأول استغل حادث الاغتيال وركز هجومه على الشعب الفلسطيني ومؤسساته وجرف في طريقه المئات من المؤسسات اللبنانية تحت سقف هدف واضح وهو إخراج القوات الفلسطينية.
هذه المرة الحرب تذرعت بحادث اختراق الحدود الدولية ليبدأ العدوان ضد اللبناني وضد قوات حزب الله وبالتالي فإن شعار إخراج قوات الحزب مسألة صعبة لسبب بسيط وهو أن عناصره لبنانية وتنتمي إلى قرى ومدن ومناطق من الجنوب والبقاع وبعلبك والهرمل والضاحية.
الهدف الإسرائيلي من الصعب تحقيقه في هذه الحرب المفتوحة باعتبار أن الحزب لبناني في تكوينه الاجتماعي وتشكيلاته العسكرية. لذلك تلجأ حكومة أولمرت إلى حرب تدمير لبنان لتأليب الناس ضد حزب الله. ويستفيد التدمير المنهجي الشامل الذي تديره الآلة الحربية الإسرائيلية، بتنسيق وتناغم مع الإدارة الأميركية، من انتفاء وجود سقف دولي وغياب الغطاء العربي. فالقرار 425 الذي جرت تحته حرب 1982 انتهت وظيفته وفقد فعاليته بعد انسحاب «إسرائيل» في العام 2000. والاتحاد السوفياتي انقرض ولم يعد لهذا الكيان السياسي من وجود. والغطاء العربي لم يعد يلعب دوره في حماية البلد الصغير بعد ظهور انقسامات أدت إلى خلافات في وجهات النظر في تحديد «السبب» و«المسبّب» في تفجير فتيل الحرب. وسورية خرجت من لبنان ولم يعد في إمكانها أن تلعب ذاك الدور الميداني الذي فعلته في العام 1982.
هناك إذاً فوارق كثيرة بين الحربين وكذلك تختلف أهداف «إسرائيل» في العام 1982 عن أهدافها في العام 2006. ففي العدوان السابق حددت أن خطتها تقضي بإخراج القوات الفلسطينية وأنها تريد الانسحاب من لبنان بعد ترتيب أوضاعه السياسية وتأمين حدودها الشمالية. أما العدوان الجاري فإنه يظهر على أكثر من وجه وميدان ولكنه في النهاية يتركز على لبنان واللبنانيين بعد أن سقطت ذريعة فلسطين والفلسطينيين.
وبسبب هذا الاختلاف دأبت حكومة أولمرت على إطلاق تصريحات ملتبسة بشأن أهدافها. ولم توضح أبعاد ذاك السيناريو الذي تريد تمريره من استراتيجية تقويض لبنان دولة ومقاومة.
هذا النوع من الالتباس في الغايات المرجوة والمطلوبة من تحطيم مقومات البلد الصغير يكشف عن وجود خطة تشطير لبنان إلى مناطق متنازعة داخلياً تدير علاقاتها الأهلية المتوترة دولة ضعيفة لا يحق لقواتها التقدم الميداني إلى الحدود. فالحدود الجديدة التي تريد «إسرائيل» ترسيمها تميل إلى نوع من «التدويل» الذي تشرف على إدارته قوات القبعات الزرق التابعة للأمم المتحدة. ووراء القوات الدولية ينتشر الجيش. ووراء الجيش يتوقع أن تظهر مجموعة أحزمة أمنية وظيفتها منع المقاومة من التحرك جنوباً وتركها تتحرك شمالاً
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1412 - الثلثاء 18 يوليو 2006م الموافق 21 جمادى الآخرة 1427هـ