اعتدنا الحماس المؤقت مع سخونة الحوادث في فلسطين أو لبنان أو في أي بلد عربي أو مسلم، وطالما تسارعنا عبر مؤسساتنا للمجتمع المدني لجمع التبرعات، التي تتضاءل باستمرار، من خلال بعض المشروعات الصغيرة اللحظية المواكبة لفترات اشتداد الحصار وقمم الأزمات... ثم ينتهي كل شيء مع انفراج الأزمة.
ومن وجهة نظري، فقد تجاوزنا وتجاوز الفلسطينيون واللبنانيون هذا الأسلوب، وأصبح التفكير الاستراتيجي مطلوبا في تبني مشروعات مستدامة ذات استثمار وعائد تنموي وتمكيني كتعليم أبناء الأسرى والشهداء وتوظيفهم، وتأهيل الأطباء وبناء المستشفيات وتشغيلها بالمتطلبات الأساسية، وإقامة مشروعات الإسكان والتعليم والتجارة والصناعة والاعمار وغيرها. ومهما كان نوع المشروع فلابد من تأمين مصادر مالية لتمويله وتشغيله من دون تعريض إخواننا في خط المواجهة إلى مزيد من الضغوط أو إلى الشعور بالحاجة والمهانة، فما يتحملونه بالنيابة عن الأمة العربية يكفيهم. وهنا قد تسهم فكرة تأسيس صندوق مالي مقتطع من إيرادات الحكومة النفطية الهائلة، التي يختفي معظمها في غياهب المجهول، أو من تبرعات شعبية مستقطعة من رواتب المواطنين عندما يفشل الرهان على الحكومة، كما هو متوقع، نقول قد يشكل ذلك خطوة تضامنية عملية ومستدامة لدعم مشروعات المقاومة وصمود المدنيين وترميم ما يمكن من أوضاعهم. الرهان الآن على الشعوب، كما قال الأمين العام لحزب الله، وقد سارع المواطن البحريني في مواقف عدة سابقة إلى إظهار دعمه لإخوته في فلسطين ولبنان بوسائل شتى، ولن يكون هذا الموقف جديداً والفرق هنا في الاستدامة.
قد يختلف البعض ومن بينهم لبنانيون على صحة موقف أو توقيت عملية حزب الله في أسر الجنديين الإسرائيليين يوم الأربعاء الماضي 12 يوليو/ تموز 2006، ولكن يكاد الجميع أن يتفقوا على صحة ما أورده الأمين العام للحزب السيدحسن نصرالله على رهانه على الشعوب العربية، وتحميله إياهم المسئولية التاريخية، فالشعوب العربية وعبر دروس يومية ومتكررة فقدت الأمل في تحرك أنظمتها من دون أن ترى تلك الأنظمة الضوء الأخضر من شرطي المنطقة الأوحد ناهيك عن الإقدام على مبادرات تتعارض والأجندة الأميركية ومصالحها ومصالح حليفاتها. الشعوب العربية ذكية، وبذكائها اكتشفت مبكرا أكذوبة مشروعات التحول الديمقراطي لأن مخاخ حكوماتها التي نخرها الفساد وحب الذات وعقلية «أنا أولا» لا تستوعب تلك المفاهيم العادلة، واكتشفت زيف مشروعات الإصلاح المستوردة من الديمقراطيات العريقة وأهدافها التسويقية، لأن تلك المشروعات تصبح الضحية الأولى لتجمد أو تضرب عندما يظهر المواطن العربي شيئاً من المطالبة المبنية على المعرفة والتعلم من تجارب الآخرين.
ويبدو أنه رهان متبادل، فالفلسطينيون واللبنانيون وأشراف الأمة يتبنون قول السيدحسن نصرالله «يمكنكم في الشدائد أن تراهنوا علينا وكفى»، و«نحن قوم لا نترك أسرانا في السجون»، والسيد يراهن على الشعوب العربية والإسلامية والشرفاء.
ومن يريد استشفاف وجهة النظر الشعبية يمكنه قراءة التعليقات اللانهائية الواردة من المواطنين العرب في مختلف المواقع الالكترونية التي يتذكرون فيها انتصارات 24 مايو/ أيار 2000، إذ تبخرت أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر وانسحبت «إسرائيل» من جنوب لبنان تحت وقع أعمال مقاومة قادها حزب الله بعد احتلال استمر 22 عاماً وسيطر حزب الله على المنطقة. الناس تصف حزب الله بالبعث الجديد لروح الصمود والتحدي العربي، وبالأبطال الأشاوس الرافعين للهمم والهامات وبرجال المقاومة البواسل، وأنهم مفخرة لكل العرب والمسلمين الشرفاء، ويعتبون على اللوامين بعبارات من قبيل: عيب عليكم وعار عليكم واسترداد الكرامة ليس بحاجة إلى حسابات أو توقيتات بعدما أخلفت «إسرائيل» وعدا بالإفراج عن المعتقلين اللبنانيين سمير القنطار ويحيى سكاف ونسيم نسر وغيرهم، وكذلك عن آلاف الأسرى الفلسطينيين. فآخر عملية تبادل للأسرى بين حزب الله و«إسرائيل» جرت في العام 2004، إذ تم تسليم رجل أعمال إسرائيلي ورفات ثلاثة جنود مقابل الإفراج عن أكثر من 400 أسير عربي في السجون الإسرائيلية في أكبر عملية من نوعها منذ ثلاثة عقود.
إن ما يفعله الفلسطينيون واللبنانيون حق مشروع كفلته مواثيق حقوق الإنسان والشرعية الدولية، فهم وبكل بساطة يسعون إلى إطلاق أسراهم الذين أسروا في معارك أو اعتقلوا بأوامر إدارية غير مسببة من قبل المحتل، والموقف الأخلاقي والصحيح الذي يجب أن يتبناه قادة الدول العربية والأجنبية الكبرى والأمم المتحدة هو مطالبة «إسرائيل» بوقف تدميرها للبنى التحتية لفلسطين ولبنان غير المتناسب وحجم فعل المقاومة المشروع، واللجوء للمفاوضات الصادقة لا الطلب بتوقف المقاومة غير المشروط. وإن مراجعة سريعة للمحطات الرئيسية للعدوان الإسرائيلي على لبنان، وقبلها طبعا فلسطين، توضح نهج التدمير المنظم الذي تبنته «إسرائيل» كاستراتيجية للتعامل مع جيرانها الحلقة الأضعف.
ففي 14 مارس/ آذار 1978 نفذ 25 ألف جندي إسرائيلي عملية الليطاني في جنوب لبنان وقتلوا ما بين 200 و400 قتيل وهجروا نحو 400 ألف شخص إلى بيروت وضواحيها، وفي يونيو/ حزيران 1982 حاصروا العاصمة بيروت في عملية سلام الجليل لمدة شهرين، ليغادر بعدها ياسر عرفات مع ما يزيد على 11 ألف مقاتل فلسطيني. وفي 17 و18 سبتمبر/ أيلول قتل 1500 مدني فلسطيني على الأقل في مجازر مخيمي صبرا وشاتيلا في الضاحية الجنوبية لبيروت على أيدي عناصر الميليشيا المسيحية، بينما طوق الجيش الإسرائيلي المخيمين، ووفق تقديرات رسمية لبنانية بلغ عدد القتلى نحو عشرين ألف قتيل والجرحى ثلاثين ألف جريح. وفي 5 يناير/ كانون الثاني 1984، كانت الغارة على بعلبك، وفي 5 سبتمبر/ أيلول 1987، على مخيم عين الحلوة الفلسطيني في جنوب لبنان، وفي مارس 1988م نفذت سلسلة من الغارات الإسرائيلية في صحراء النقب بجنوب «إسرائيل» بعد هجوم على حافلة إسرائيلية، وسقط مئة قتيل. وفي 16 فبراير/ شباط 1992، تم اغتيال الأمين العام لحزب الله عباس الموسوي في غارة إسرائيلية في جنوب لبنان. وفي الفترة 25 - 31 يوليو 1993م، نفذ الإسرائيليون عملية يوم الحساب لضرب حزب الله، وقتلوا فيها 132 قتيلا معظمهم من المدنيين اللبنانيين ونزح مئات الآلاف من اللبنانيين. وفي 11 ابريل/ نيسان 1996، شنت «إسرائيل» نحو 600 غارة جوية خلال 16 يوماً ضمن عملية عناقيد الغضب لكسر القوة العسكرية لحزب الله وقتل 105 مدنيين خلال قصف مقر للأمم المتحدة في قانا حيث لجأوا.
وفي 24 و25 يونيو/ حزيران 1999م، قصف جنوب وشرق لبنان ودمرت محطتان كهربائيتان وخمسة جسور ردا على سقوط قتيلين إسرائيليين فقط في قصف حزب الله. وتوالت الغارات في الأعوام 2001، و2003، و2004، و2005 وأخيراً .,,2006 هذا جزء يسير من سلسلة غارات القوات الإسرائيلية على لبنان وحدها... فماذا يحتاج حلفاء «إسرائيل» أكثر لقول الحق؟ وهل تكذب الحقائق والأرقام، وهل نحقق شيئاً ولو يسيرا لتحقيق الرهان علينا؟
إقرأ أيضا لـ "فريدة غلام إسماعيل"العدد 1411 - الإثنين 17 يوليو 2006م الموافق 20 جمادى الآخرة 1427هـ