لن يتجه مقالي للوجاهات الاجتماعية البسيطة، فهي وجاهات تلقائية وغير معقدة، ولا تتقن أساليب التخفي والتلون، ولا تنمو وتتضخم على حساب غيرها، بل ربما كلفتها وجاهتها ثمناً غالياً وجهداً كثيراً وعطاء متواصلاً من المال والخيرات التي تمتلكها، وبحسب هذه الوجاهات أن يرهقها المنتفعون منها من الذين يتلذذون بموائدها ويتربعون في مجالسها، ويأخذون وهجهم منها.
على نسق هذه الوجاهات شباب كثيرون وعوائل تنافسهم في الاستدانة من أجل وجاهة السفر والبيوت المكلفة والاثاث الفخم والملابس الراقية(الماركات) والسيارات والجوالات المقسطة، أما عن موائد الطعام فالإسراف وافر جداً من أجل إرضاء الذات والشعور بمكانتها الاجتماعية.
ربما يكون المقال في اتجاهات أخرى ليست ساذجة ولا تلقائية، انها تمتلك عقلا يتفتق براعة لتحقيق أمانيها، وتراودها تطلعات مستورها أكثر من مكشوفها، ولذلك فهي لا تنفق كثيراً من الجهد والتعب على وجاهتها ومكانتها بل تأتيها الوجاهة والمكانة بشيء زهيد جداً من المال، أو القدرة على إدارة الكلام.
من هذه الفصيلة بعض الجامعين والمدرسين والمقبلين على شهادة الدكتوراه وغيرهم من الذين لا يجهدون أنفسهم كثيرا للحصول على شهاداتهم ومكانتهم ولا يعطون من ذواتهم ما تستحق شهاداتهم، بل يتوجهون إلى من ينجز المهمة لهم من مراكز ومؤسسات، مقابل بعض المال اليسير، يقول الكاتب والمفكر فهمي هويدي شارحاً ما تعنيه هذه المراكز الخطيرة على مستقبل العلم والشعوب وما أعنيه بالمراكز هو تلك المؤسسات التي تتخذ مقاراً في شقق سكنية، ولها مديرون، وجهاز إدارة وفريق من الباحثين الذين يتولون طبخ الرسائل المطلوبة.
ويشير إلى أمر لا يقل خطره عن السابق بقوله: إن معظم الندوات التي تقام في منطقة الخليج يعتمد المواطنون المشاركون فيها على أوراق أعدت لحسابهم في القاهرة مشيراً إلى أن مرض الوجاهة الجاهزة المقدمة على الحرير الناعم هو أسوأ ما تبتلى به مجتمعاتنا العربية، والسبب هو أن الوجاهة بذاتها مطلب ومغنم يخضع لها الناس ويطلبون رضاها من دون أن يطلبوا منها ثمنا أو موقفا أو عملا أدري أن ثمة ولعاً شديداً بالالقاب في مصر والعالم العربي بوضع أخص، وفي أزمنة التراجع وفي العالم الثالث عموماً لا تقاس قيمة المرء بما يضيفه في مناحي الخير والبناء والمعرفة، ولكنها تقاس بمقدار وجاهته، سواء استمدها من مال وفير أو ألقاب كثيرة.
وجهاء ودوافع
الواجهات الاجتماعية عادة ما تأخذ مكانتها وتملأ حيزها بدوافع مختلفة بعضها حسن ومقبول وبعضها الآخر ليس كذلك، فمن الدوافع ما هو على علاقة بالخارج الاجتماعي، إذ يفرض هذا الخارج أو يرشح أشخاصاً يرتئيهم ليتعامل معهم ويعتبرهم واجهات للمجتمع، ذلك ان كل مجتمع أو جماعة لا تسرح وتمرح بمفردها مع وجود أغيار لها واندادا إلى جانبها، بل لابد من لغة ولابد من واجهة ولا بدمن أحد يتعاطى معه، وتوصل الأشياء عبره، ويسمع منه جميع ما يدور في الساحة المحيطة به.
ومن الدوافع ما هو فئوي ترتئيه كل شريحة أو مدرسة أو منهجية لنفسها، وما تعتقده معبرا عن وجهة نظرها وتمثيلها في مواقع التواصل مع الاخرين، وهي حاجة حقيقية ومهمة وملحة احيانا.
من جهة أخرى، يغري الصمت العام وعدم المبادرة، والمبالغة في الذاتية، والانزواء عن القضايا العامة (كما هي العادة في مجتمعاتنا) اناساً يحركهم الطموح لملء الفراغ والدخول إلى حلبة التمثيل والوجاهة الاجتماعية داخليا وخارجيا، داخليا في المجتمع المحدود وخارجيا مع الأنداد والاغيار، فيشقون طريق الوجاهة وإن كانت إمكاناتهم وقدراتهم ضعيفة ومتواضعة.
في أحيان نادرة تكون الوجاهة حصيلة لتاريخ طويل من الخدمة والعطاء والمواقف المدروسة في الأزمات والنوائب، ما يعني أنها وجاهة مختبرة ومقتدرة، أثبتت التجارب حنكتها وحكمتها في تصريف الأمور، فتحلق الناس حولها، وفرضت نفسها بجدارة على ساحة العمل والنشاط والفاعلية.
هذا الاستحقاق مشابه وإلى حد كبير الكثير من العلماء والمفكرين والمخترعين الذين لحقتهم القاب التقدير والاحترام بعد أن وداعوا هذه الدنيا، لأنهم فرضوا أنفسهم بما لا يتمكن حتى الزمان من تناسيه والتغافل عنه.
على كل تقدير ومهما تعددت الدوافع فإن المجتمعات بحاجة إلى من يستوجه ببصماته واعماله وتضحياته فيكون تاريخه هو شهادة الاستحقاق وتكون قدرته هي الشاهد والناطق على جدارته للصدارة والزعامة.
وتخطئ الشعوب حين تخدع ويستوجهها من يشخص مصالحها، ويضيع حقوقها، ويأخذ نفسه في طرق السلامة بعيدا عن المواقف التي تحتاجها أمته.
كما أن هلاك المجتمعات وضياعها مرهون بقبولها للواجهات التي تسعى أبدا إلى النمو والارتقاء على حساب الآخرين، وتتورم بسبب ما تلتهمه من أتعابهم، أخيرا بإمكان كل إنسان أن يحل نفسه محل الصدارة، وأن يحاول تحقيق أحلامه وآماله، أو يشبع جوعا ونهما في نفسه أو في نفوس من يحيطون به، وهذا لا يزعج أحد أبدا، لأن المهم أن تكون المجتمعات واعية وقادرة على اختيار وجهائها ومتمكنة من ترشيحهم (ليس من خلال صناديق الاقتراع) بالتواصل والتعاطي معهم.
وما لا شك فيه أن الوجهاء لا يكونون كذلك حتى يقبل الناس بوجاهتهم وخصوصاً إذا كانت وجاهتهم فيما يمس قضايا الناس ويرتبط بحاجاتهم
إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"العدد 1410 - الأحد 16 يوليو 2006م الموافق 19 جمادى الآخرة 1427هـ