في خطابه باسم الحركة الصهيونية في العام 1919 لرئيس الوزراء البريطاني ديفيد للويد، كتب حاييم وايزمن عن «الحد الأدنى» للاحتياجات المطلوبة نحو تحقيق وطن قومي لليهود الذي وُعد به اليهود في وعد بلفور المشئوم الصادر قبل ذلك بعامين، «أنه على رغم أن الحدود لا يمكن رسمها بشكل مطلق على الخطوط التاريخية... فإن حقنا في المناطق الشمالية تتطلبه احتياجات الحياة الاقتصادية الحديثة... إن مستقبل فلسطين الاقتصادي يعتمد على توافر مصادر المياه للزراعة والطاقة، ومصادر المياه هذه يجب توفيرها من منحدرات جبل الشيخ ومن منابع حوض الأردن ومن نهر الليطاني... نحن نعتقد بأنه من الضروري أن تشمل الحدود الشمالية لفلسطين سهل الليطاني لمسافة 25 ميلاً والمنحدرات الغربية والجنوبية لجبل الشيخ..».
كانت هذه من ضمن محاولات كثيرة للمنظمات الصهيونية للضغط على سلطات الانتداب البريطاني لتغيير جغرافية فلسطين إلى ما خلف منابع المياه اللبنانية، وضمن احتجاجها على رسم الحدود كما وردت في اتفاق سايكس-بيكو عندما جرى تقاسم تركة «الرجل المريض» أي البلاد التي كانت جزءاً من الإمبراطورية العثمانية. ولقد كان لفرنسا الدور الأكبر في إبعاد حدود لبنان الجنوبية عن ضفاف الليطاني.
وبعد إنشاء الكيان الصهيوني، أكد هذا الموضوع في العام 1950، رئيس وزراء موشي شتريت «إسرائيل»، بقوله :«إن على دولة «إسرائيل» أن تفتش عن ضابط ماروني حليف في جنوب لبنان كي يتعاون معها وينصِّب نفسه منقذاً للمارونيين في لبنان، وبعد ذلك سيدخل الجيش الإسرائيلي لبنان ويحتل المقاطعة المنطقة من نهر الليطاني جنوباً ومن ثم ضمها نهائياً إلى «إسرائيل» وسيمكننا ذلك من استغلال مياه النهر».
ومنذ قيامها، لم تخفِ «إسرائيل» أطماعها في المياه العربية، فقد دأبت على توسيع مستوطناتها الزراعية وزيادة مساحاتها، واعتبرت الحصول على المياه «أولوية قومية»، ولذلك قامت بضرب مشروع سد الوحدة السوري - الأردني المشترك على نهر اليرموك في بداية الستينات، وبعد ذلك في العام 1965 قامت بتدمير مشروع تحويل مجرى نهر الحاصباني والوزاني الذي كان يتم تنفيذه طبقاً لقرار القمة العربية التي عقدت في القاهرة العام 1964 والقاضي بالتصدي لمحاولة «إسرائيل» سحب مياه نهر الأردن إلى صحراء النقب عبر قيام الدول العربية بالسيطرة على روافد نهر الأردن وهي لبنان وسورية والأردن بتحويل مجاري هذه الأنهار تحت حماية قيادة عسكرية وعربية موحدة. ولم تأبه وزيرة خارجية «إسرائيل» في ذلك الوقت غولدا مائير بهذا القرار وأعلنت أن المياه بالنسبة إلى «إسرائيل» هي بمثابة «الدم في العروق» قبل أن تقوم الطائرات الإسرائيلية بتدمير الإنشاءات التي كان لبنان بدأ بتنفيذها.
وعلى رغم احتلالها للضفة الغربية ومرتفعات الجولان في العام 1967 وحصولها على مياه هذه المناطق بالقوة، فإن أطماعها في المياه اللبنانية استمرت، وأعطاها اجتياحها للبنان في العام 1978 سيطرة مؤقتة لنهر الوزاني الذي يغذي نهر الأردن وقامت بوضع مضخات ومواسير لتوصيل المياه من الحصباني إلى شمال «إسرائيل». ويشك اللبنانيون أنه بالإضافة إلى المضخات السطحية التي تم تركيبها على مجرى الحصباني فإن «إسرائيل» قامت بحفر آبار وتركيب مضخات وقامت باستخدامها لسنوات كثيرة. كما طلبت «إسرائيل» من عميلها العميد حداد أن يوقف المزارعين اللبنانيين من حفر آبار جديدة وقاموا بسد الكثير ن الآبار القائمة آنذاك لضمان حصولها على المياه.
أما بالنسبة إلى نهر الليطاني، الذي يمثل العمود الفقري للتنمية المائية اللبنانية، فقد عرقلت «إسرائيل» جميع المشروعات المصممة للاستفادة منه بمنع التمويل تارة، ومنع التنفيذ بالقوة تارة أخرى. ومن المعروف لدى المهندسين الهيدرولوجيين أن محاولة الحصول على المياه المتدفقة في النهر بواسطة تحويل مجراه في المناطق القريبة من الحدود اللبنانية - الإسرائيلية سيكون غير مجدٍ إذ تعتبر كمية المياه المتدفقة في النهر في تلك المناطق ضئيلة جداً مقارنة بتدفق النهر السنوي، ولكي يكون هذا التحويل فعالاً للحصول على كميات كبيرة من المياه فإنه يجب أن يتم في أعالي النهر بدءاً من سد بحيرة القرعون، إذ يصل التدفق في هذه المنطقة إلى 700 مليون متر مكعب سنوياً. ولذلك، فإنه عندما اجتاحت «إسرائيل» لبنان في العام 1982، كان أول عمل قام به الغزاة عندما وصلوا بحيرة القرعون هو الاستيلاء على جميع البيانات والمعلومات الهيدرولوجية عن السد والنهر وإرسالها إلى «إسرائيل». وطوال فترة احتلال «إسرائيل» للبنان وسيطرتها العسكرية عليه قامت بسرقة المياه اللبنانية وكذلك سرقة الترب الخصبة في لبنان ونقلها إلى «إسرائيل».
وكلنا يتذكر تهديدات شارون للبنان بالحرب خلال سبتمبر/ أيلول وأكتوبر/ تشرين الأول 2002، بسبب تنفيذ مشروع جر مياه نبع الوزاني، أحد روافد نهر الحاصباني الذي يوفر ما بين 20 - 25 في المئة من مياه بحيرة طبرية، إلى القرى والبلدان المحررة في جنوب لبنان، وتهديدات وزير الدفاع الإسرائيلي بنيامين بن اليعازر آنذاك بأن «إسرائيل لن تمر مرور الكرام» على تحويل مجرى الحاصباني لأن المياه هي «بلسم حياة الإسرائيليين»، وإعلان وزير الخارجية الإسرائيلية شمعون بيريز آنذاك بأن «إسرائيل» ترى في مساعي لبنان لتحويل مجرى مياه الحاصباني عملاً لا يمكن تحمله واستفزازاً خطيراً. كما أعلن وزير البنية التحتية الإسرائيلي آنذاك أفيجدور ليبرمان، الذي سبق له أن هدد مصر بتدمير السد العالي، «أن مشروع نهر الوزاني يعد سابقة خطيرة لأنه سيشجع دولاً مثل سورية والأردن على تحويل مياه نهر اليرموك المار بالدولتين، كما قد يشجع الفلسطينيين علي استغلال المياه الجوفية في أراضيهم»! وفي هذا الصدد، صرح مفوض المياه السابق في «إسرائيل» دان زاسلافسكي بأنه «ينبغي علينا الآن أولاً إيقاف تزويد قرى جنوب لبنان بالمياه والإعلان بأنه في اللحظة التي يخرج فيها أول متر مكعب من مياه الحاصباني، فإننا سنقوم بتدمير الآلات. إذ يستحيل علينا تجاهل هذه السرقة... إن قضية الوزاني لا تحتاج إلى مفاوضات واتصالات، وإنما دبابة تقوم بتدمير المنشآت اللبنانية على النبع»!
كل هذا الاستنفار ودق طبول الحرب على رغم أن لبنان لم يكن ينوي إنشاء سد على نهر الحاصبانى، وأن تدفق نهر الوزاني، اللبناني مئة في المئة، يبلغ نحو 50 مليون متر مكعب سنوياً، وأن الكمية التي سيستغلها لبنان بعد الانتهاء من هذا المشروع ستصل إلى 20 مليون متر مكعب فقط، من أصل 150 مليون متر مكعب تتدفق إلى بحيرة طبرية.
وعلى الجانب الآخر، وبسبب اعتمادها بالأساس على مياه نهر الأردن والذي يشكل بالنسبة إليها العمود الفقري، جاء تمسك القادة الصهاينة بأن تكون الحدود الشرقية لدولة «إسرائيل» هي نهر الأردن، واعتبر ذلك شرطاً للمحافظة على الأمن القومي لـ «إسرائيل»، كما تمسكت «إسرائيل» في المفاوضات بأن تبتعد سورية عن خط الماء (نهر الأردن وبحيرة طبرية).
ويبدو جلياً من حدة ردود الفعل الإسرائيلية حيال قضايا المياه بأنها مسألة لا تقبل الجدل في الحسابات الصهيونية، وأن أي نقص في المياه من شأنه أن يطيح بخطط الاستيطان والتوسع، إذ لا إمكان لاستيعاب أعداد إضافية من المهاجرين من دون المياه. ويذهب الكثير من المحللين السياسيين، العرب والغربيين، إلى أنه يمكن تسمية حربي سنة 1967 و1973 واجتياح لبنان سنة 1978 و1982 بحروب مياه أو ذات أبعاد مائية أساسية إذ كانت تهدف إلى السيطرة على مصادر مياه تعتبرها «إسرائيل» حيوية لوجودها وتوسعها، بل إنه أثناء أزمة الوزاني دعا ليبرمان شارون إلى أن يذكر الأميركيين بأن كل الحروب في الشرق الأوسط ارتبطت بمسائل المياه، وأن عليهم أن ينقلوا رسالة التحذير هذه إلى المسئولين اللبنانيين.
وبحسب طارق المجذوب في كتابه «لا أحد يشرب مشروعات المياه في استراتيجية إسرائيل»، يستهلك الكيان الصهيوني سنوياً نحو 500 مليون متر مكعب من بحيرة طبرية وأنهار الحاصباني والوزاني والدان وروافد أخرى، كما يحصل من خزانات الضفة الغربية الجوفية على ما مجموعه 450 مليون متر مكعب، أما الخزان الجوفي الشرقي داخل الخط الأخضر أي المناطق المحتلة قبل العام 1967 فيزوده بكمية 500 مليون متر مكعب، ويضاف إلى هذه الكميات 220 مليون متر مكعب من مياه يعاد تدويرها، وأن العجز المائي في «إسرائيل» في تصاعد فعلى رغم أنه كان في العام 1990 ما يوازي 350 مليون م3، فإنه يصل حالياً إلى أكثر من مليار متر مكعب.
وفي ضوء هذا العجز المائي الحالي والمستقبلي وخطط الكيان الصهيوني الاستيطانية والتوسعية، تنطلق عناصر الاستراتيجية الصهيونية، بحسب عصام خليفة في كتابه «لبنان المياه والحدود»، من مسلمات أبرزها التمسك ببقاء السيادة الإسرائيلية على مصادر الموارد المائية العربية، وأن تأمين احتياجاته المائية يتوازى مع المتطلبات الأمنية، ورفض مفهوم السيادة الوطنية لأية دولة في المنطقة على ثروتها المائية، وبموجب ذلك لا بد من تزويد «إسرائيل» بموارد مائية إضافية يوازيها تقييد استخدام العرب للمياه.
أستاذ إدارة الموارد المائية، جامعة الخليج العرب
إقرأ أيضا لـ "وليد خليل زباري"العدد 1409 - السبت 15 يوليو 2006م الموافق 18 جمادى الآخرة 1427هـ