في اليوم الأخير من مؤتمر إعلامي دولي للصليب الأحمر أقيم في بيروت نهاية العام 2004، كان كل ما تبقى نصف نهار لمغادرة بيروت. وبدافع من الفضول الصحافي، طلبت من مندوب قناة «المنار» في المؤتمر الترتيب لزيارتها.
وهكذا اتجهت سيارة الأجرة باتجاه الجنوب. كنت أتخيل مبنى ضخما تحف به الأشجار على الأوتوستراد الكبير، وموقف سيارات واسعا تقف فيه مئات السيارات، وكان يمر بذهني سؤال: أليس سهلا أن تستهدفها «إسرائيل»؟
الطريق من الفندق إلى المبنى يحتاج إلى ربع ساعة في الوضع الطبيعي، ولكن بسبب الازدحام استغرق الوصول إلى حارة حريك نصف ساعة. وسرعان ما تبين أن السائق البيروتي العجوز لم يكن يعرف طرق الضاحية، وهكذا توقف مرارا يسأل المارة والباعة عن مبنى المنار. وعندما وصلنا أخيرا، لم يكن هناك ما يميز المبنى الضائع بين بنايات سكنية عالية غير لافتة مشابهة لبقية لافتات المحلات التجارية، تضم شعارها الذهبي، مع عبارة «قناة العرب والمسلمين».
المبنى يقع على شارع عادي مزدحم، وليس هناك غير بوابة واحدة لا يعبرها غير المرخص لهم. عند المدخل، يطلب من الزائر ملء «فورمة» باسمه ومهنته وهدفه من الزيارة، وربما يسبق ذلك طلب كتابة رسالة بهذا الخصوص. وعلى الزائر تسليم آلة التصوير لمكتب الأمن. وصادف في ذلك اليوم، وفاة اثنين من كوادر القناة في حادث على طريق الجنوب بعد عودتهما ليلا من التصوير في إحدى مدن الجنوب، وكان على البوابة الرئيسية لافتة قماشية تنعاهما. كما صادف يومها عقد مؤتمر للتضامن مع القناة ضد قرار فرنسا بمنعها من البث في أراضيها.
المبنى ربما كان يتكون من سبعة أو ثمانية طوابق، وهكذا كانت الجولة في بعض الطوابق لمشاهدة أقسام الأخبار واستوديوهات البرامج وغرف الإنتاج، والالتقاء مع عدد من المنفذين ومعدي الأخبار والمذيعين.
كانت كل الأقسام في جهة، وقسم الترجمة عن اللغة العبرية في جهة أخرى من اهتمامي، نظرا لما يقوم به من دور في الحرب الإعلامية ضد «إسرائيل»، في زمن أخذ الإعلام العربي الرسمي يخجل أو يرتعد خوفا من اعتبار «إسرائيل» عدوا.
عندما طلبت من المرافق لقاء بعض المترجمين وعدني خيرا. كنت أتصور أنه تم انتداب عدد من الشباب اللبناني إلى جامعات فرنسية أو أوروبية لدراسة العبرية، لكن تبين أنهم كانوا من الأسرى اللبنانيين الذين وقعوا في الأسر في الثمانينات، في عز سنوات المقاومة ضد المحتل، وتم نقلهم إلى السجون داخل فلسطين المحتلة، وهناك أتيحت لهم الفرصة لممارسة وتعلم العبرية عبر الاحتكاك اليومي مع السجانين الصهاينة.
في الأعوام الخمسة الماضية بعد التحرير، ظلت «المنار» الصوت الأقوى تعبيرا عن الانتفاضة الفلسطينية، وحيدة بين فضائيات عربية تتكاثر كالفطريات، لا تجيد غير ترويج ثقافة الغناء وخلق «أبطال» و«نجوم» لا يجيدون غير الرقص.
في الأيام الأخيرة، ومع تصاعد العدوان الإسرائيلي على لبنان، كان الهاجس القديم يعود ملحا: هل أصبح الهدف الأكبر إسكات «قناة الانتفاضة»؟
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1409 - السبت 15 يوليو 2006م الموافق 18 جمادى الآخرة 1427هـ