الانقسامات العربية التي ظهرت بوضوح في اجتماع وزراء الخارجية في مبنى الجامعة في القاهرة كشفت ذاك الضعف العام الذي يسيطر على المنطقة من المحيط إلى الخليج. فالانقسامات ساقت الحرب على لبنان إلى مكان مجهول وباتت المقاومة مكشوفة عربياً ولا تملك حتى ذاك الغطاء الشكلي الذي كانت تتمتع به حتى هزيمة الاحتلال وانسحاب «إسرائيل» من الجنوب في العام 2000.
الضعف العربي أعطى إشارة خضراء لحكومة إيهود أولمرت لتوسيع رقعة اعتداءاتها، إذ بدأت تطاول المدنيين بهدف تهجيرهم من قراهم ومناطقهم إلى مخيمات في داخل الأراضي اللبنانية.
هذا الضعف العام سيشجع «إسرائيل» على مواصلة مشروع تقويض أركان الدولة اللبنانية تاركاً المجال لنهوض مراكز قوى مناطقية تتحرك في أطر طائفية ومذهبية كما هو حال العراق الآن بعد الغزو الأميركي. هذا الاحتمال ليس مستبعداً وخصوصاً بعد أن تُرك البلد الصغير مُشرعاً أمام هجمات جوية القصد منها إلغاء المؤسسات الحيوية والمرتكزات الاقتصادية والمرافق الخدماتية وإثارة نقمة الناس على مقاومة قادت لوحدها الانتصار العربي الأول ضد الاحتلال.
المشكلة إذاً ليست في المقاومة وإنما في ضعف ذاك الغطاء العربي المطلوب سياسياً لمنع تمادي «إسرائيل» في عدوانها والإفراط في استخدام قوتها العسكرية التدميرية.
الانقسام العربي على موقف موحد أثار تكهنات كثيرة. وتجاهل لبنان والمقاومة في الاتصالات الهاتفية التي أجراها الرئيس الإيراني مع القوى المعنية زاد من المخاوف. وتصريحات السفير السوري في لندن خيّمت على الأجواء اللبنانية. فهذا السفير طالب المقاومة بوقف ضرباتها الصاروخية على المستعمرات والمستوطنات الصهيونية ثم سارع بتصحيح ما نُقل عنه، موضحاً أنه دعا إلى وقف العدوان الإسرائيلي ثم وقف إطلاق النار من قبل حزب الله وأخيراً التفاوض لإيجاد مخرج للأزمة.
توضيح السفير السوري عدل جزئياً من الصورة. إلا أن التعديل المذكور ليس كافياً لتأمين الغطاء لدولة تتعرض مؤسساتها للدمار الشامل. وما زاد الأمر تعقيداً الكلام المنقول عن الرئيس محمود أحمدي نجاد الذي صحح لاحقاً.
هذه المواقف المعطوفة على الضعف العربي العام والانقسام الذي ظهر في القاهرة تعطي صورة مصغرة عن الحال التي تتجه إليها الآلة العسكرية التي تواصل ضرب لبنان من جنوبه إلى شماله ومن غربه إلى شرقه، من دون اكتراث بالجيران أو الحلفاء.
هناك إذاً حال من التصعيد العسكري ضد لبنان يستهدف الدولة ويريد الانتقام والثأر من هزيمة ألحقت بـ «إسرائيل». وهذا التصعيد كان من الصعب توقعه لو كان الموقف العربي أكثر صلابة. فالموقف العربي المنقسم على نفسه مضافاً إليه التباس تصريحات السفير السوري في هذا الشأن، وتصحيح خبر الاتصالات التي أجراها الرئيس الإيراني، تدلّ كلها على وجود حال من التقاطعات تتوافق على ترك لبنان مفتوحاً على احتمالات خطيرة.
هناك ثلاثة احتمالات يمكن تصورها إذا استمرت الضربات الإسرائيلية الشاملة.
الاحتمال الأول، تقويض الدولة اللبنانية وتحويلها إلى هيئة إغاثة محلية توزع المساعدات وتشرف على تنظيم العلاقات بين المناطق والضواحي. فالدولة في لبنان ضعيفة أصلاً وهي تعتمد تقليدياً على سلسلة توافقات طائفية من الصعب ضبطها سياسياً من دون تنازلات متبادلة من أمراء المناطق. وهذه الدولة لا تستطيع تحمل هذا الكمّ من الضغط الخارجي وتحتاج دائماً إلى عون عربي يوفر لها الاستقرار والتفاهم. فالدولة هي الهدف السهل في عمليات الاجتياح الجوية التي تنفذها حكومة أولمرت. وفي حال استمر هذا الغزو الجوي من دون ضوابط وكوابح سيضرب الانهيار العام أركان الدولة وستفقد المؤسسات وظيفتها ودورها وستتحول المناطق إلى شراذم دويلات (إدارات محلية) يدير شئونها «أمراء الطوائف» أو زعماء الميليشيات.
الاحتمال الثاني، نهوض مراكز قوى محلية تسيطر على مناطق محددة يغلب عليها هذا اللون الطائفي أو المذهبي. وهذا الأمر ليس جديداً على لبنان، إذ قامت فيه سابقاً أشكال من الكانتونات (الإدارات المحلية) خلال الفوضى الأهلية التي ضربت لبنان خلال فترة حروبه الداخلية والإقليمية بدءاً من العام 1975 إلى ما بعد توقيع اتفاق الطائف. فالتفكيك الأهلي ليس مستبعداً والنموذج الذي أسسته الولايات المتحدة في العراق قابل كما يبدو للتطبيق في لبنان. فهذا البلد الصغير سيبقى موجوداً على الخريطة السياسية لجغرافية المشرق العربي ولكنه سيكون مجموعة «دويلات» يشرف على إدارتها أمراء الطوائف والمناطق وتقوم الدولة المقوضة بتنسيق العلاقات بينها.
الاحتمال الثالث، إعادة تعويم اتفاق العام 1976 الذي يقوم على سلسلة قواعد متجاذبة منها عزل الدولة في بقعة صغيرة للمحافظة على شرعية رمزية لجمهورية معترف بها في الأمم المتحدة. وهذه «الجمهورية» ستكون ضعيفة وتحتاج الى رعاية إقليمية متوافق عليها من الجارين.
الاحتمالات الثلاثة ترسم إلى حد ما تلك الصورة المتوقعة للبنان في حال استمرت سياسة التقويض الإسرائيلية لدولته. فهذه السياسة العدوانية تحاول شطب بيروت من دائرة المنافسة الإقليمية لموقع تل أبيب. وبدأت في تشطير «الدولة» إلى مقاطعات صغيرة تعطي صلاحيات لأمراء الطوائف وزعماء الميليشيات للتنافس على الحصص والنفوذ. وهذا في حال حصوله يعجّل في انهاك دور المقاومة ويعزلها عن مناطق الحدود مع «إسرائيل».
هذه الاحتمالات واردة واقعياً في حال واصلت حكومة أولمرت عدوانها من دون ردع إقليمي وعربي ومن دون ضغط دولي. فتقويض الدولة اللبنانية من الأمور السهلة وهذا في حال حصوله يعني عملياً إضعاف الممانعة وعزل حزب الله عن محيطه وتركه محصوراً في دوائر ميدانية إلى حين إعادة ترتيب الوضع بسلسلة تفاهمات قريبة من تلك التوافقات الموضوعية التي حصلت في العام 1976.
ليس بالضرورة أن يتكرر السيناريو نفسه لأن الظروف الدولية والإقليمية والعربية اختلفت وربما باتت أسوأ مما كان عليه الوضع قبل ثلاثين سنة. ولكن احتمال نشوء تفاهمات اضطرارية باتت غير مستبعدة وخصوصاً بعد تلك التصريحات التي أطلقها جورج بوش في مؤتمر صحافي عقده مع الرئيس فلاديمير بوتين في سان بطرسبورغ. فالرئيس الأميركي دعا دمشق إلى «ممارسة نفوذها لإقناع حزب الله بوقف الهجمات». وهذا الكلام يعني أن واشنطن مستعدة للموافقة على مساعدة دمشق في ضبط حزب الله. وهذا الضبط يحتاج إلى توافق دولي وإقليمي يعطي فرصة لممارسة «دور ما» ويوفر القدرة السياسية المطلوبة للقيام بعملية الضبط.
يُستبعد حتى الآن أن توافق سورية على هذا الطلب في ظل تهديدات إسرائيلية لدمشق واتهامات أميركية لها بأنها تدعم المقاومة وتقف وراء ما حصل ويحصل من غزة إلى لبنان. فالمفاوضة تتطلب تسوية إقليمية عامة ليس بالضرورة أن تكرر سيناريو 1976 وإنما تكون قريبة منه. والاقتراب من تلك التسوية ليس مستبعداً وغير بعيد عن المنال وخصوصاً أن حكومة أولمرت أنجزت نصف الطريق (تقويض الدولة والبدء في عزل المقاومة عربياً). والنصف الآخر أقل صعوبة ولا يحتاج إلى كثير من العناء لتنفيذه
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1409 - السبت 15 يوليو 2006م الموافق 18 جمادى الآخرة 1427هـ