«لا تعتذر... عما فعلت»، وتجاوز نصر الله نقطة الضعف، وداهم برجاله بارجة المطار المُكَسَّر، فكان وللبنان ومن يحب لبنان أن يبتسم، ولو كانت ابتسامة يحيط بها الخوف والفزع.
«إذن... خذوها حرباً مفتوحة»، هكذا اختتم «نصر الله» خطابه التلفوني على قناة المنار ليلة البارحة، إذ توقع البعض أن يتكرر مشهد الرئيس المصري السابق جمال عبدالناصر حين قرأ خطابه التاريخي بعد الهزيمة العربية المدوية، والذي أعده هيكلاً شخصياً، ليقدم اعتذاره للناس، وليعلن استعداده للتنحي، إلا أن «نصر الله» قلب الطاولة علينا، وأبى أن يتكرر المشهد ذاته...!
خطاب نصر الله - الذي يصدقه الإسرائيليون أكثر من تصديقهم لرئيس وزرائهم اولمرت - هو خطاب الرعب ليوم أمس، خطاب الحرب المفتوحة، خطاب المفاجآت. وأخيراً، هو خطاب التبشير بدك أسوار «تل أبيب»، وما وراء «تل أبيب».
بيروت الخاوية من السائحين، بيروت التي غابت عنها رائحة «الزهر» لتحل محله رائحة البارود والدم المسفوك على شوارعها وجسورها وضاحيتها الجنوبية الفقيرة، بيروت الجسور المهدمة، بيروت البنية التحتية المهترئة، وضعها «نصر الله» أمام مفصلين، الأول مفصل الانتقام الإسرائيلي من نصرها الألفي عليه، والثاني هو مفصل رد الاعتبار لحزب الله، وهو بالأمس كان «أسداً جريحاً».
حزب الله، والذي لم يتوقع ردة الفعل، والذي أقر - أخيراً - بأن ما جرى هو خارج إطار اللعبة، أكد أنه بدأ اللعب بالأوراق كلها، فلم تعد المسالة مسالة «أسرى».
بالأمس نصر «نصر الله» معنويات أبناء وطنه بسقوط «البارجة الإسرائيلية»، وأعلن أن الحرب المفتوحة ستمتد إلى كل شيء في كل مكان، فالمعادلة مختلفة هذه المرة، فليست لبنان وبيوتها من سيدفع الثمن فقط، الاسرئيليون أيضاً سيدفعون ثمن وعدهم به «نصر الله» بحرقة. نصر الله الذي أعجزته أسئلة الصحافيين في مؤتمر ما بعد عملية «الوعد الصادق» عاد عبر الهاتف، ليؤكد أنه لم يصب بأذى بعد استهدافه شخصياً، وليوقف مرحلة ما من الحكاية، ليبدأ فصلاً آخر.
في الحقيقة، كلنا اختلفنا في تقييمنا للمرحلة الأولى، كلنا اختلفنا في تقييم الحدث، بين مؤيد معارض لما قام به حزب الله، إلا أننا اليوم أمام حدث مختلف، ومرحلة مختلفة، ذات أبعاد مختلفة، وواقع مختلف، يفترض ضمنياً منا ان نصير جميع هذه الاختلافات توافقاً بشأن «لبنان»، فلبنان لا يخضع للاختلاف فينا.
أحرق «حزب الله» الأوراق الماضية بسرعة غريبة، من يصدق هذا...؟
اليوم لبنان «السوليدير»، والذي هبط مؤشره 20 في المئة حتى الآن، ولبنان سوق الحمراء المعطلة ما خلا أركانه التي تنتظر الخراب، ولبنان حارة «حريك» بمبانيها المهشمة، ولبنان المغارات التي ملئت بالدماء البريئة، هو اليوم لبنان الحلم الأحمر، لبنان البقاء أو اللابقاء، لبنان الانتقام من الانتقام، لبنان لغة حزب الله الجديدة، لبنان حربه المفتوحة. لبنان الضحية، يستأسد اليوم، وجراحه التي لا فائدة الآن من التنظير فيها قبل يومين، يستحق الوقوف والدعم منا اليوم وغداً.
لبنان المستنجد بسواعد «حزب الله» هل تنتشله المفآجات؟، أم أن مجازر جديدة ستعصف به فوق الاحتمال، قد يتحمل اللبنانيون مجزرة «قانا» جديدة، فالأثمان التي يدفعها اللبنانيون في كل مرة عادة ما تكون باهضة، بينما يرقد أبناء العمومة في هدوء ونعيم.
مَن الضحية اليوم: حزب الله: نعم كان هو الضحية، لكن إلى أن انتهت اللعبة، فأصبح الأمر أكبر من «سمير القنطار»، وأكبر من «الطُعم» الإسرائيلي والذي راح ضحيته 7 جنود من الطائفة الدرزية، والذي إبتلعه حزب الله بسهولة.
الضحية الآن هو لبنان كله، بمساجده وكنائسه، بالبقاع والجنوب والجبل، بالشيعي والسني والمسيحي، ولا بد للضحية من أن تتجاوز الأمس، وأن تتجاوز قوى 14 أذار وقوى كل الأيام في تاريخ لبنان السياسي، نحو جبهة واحدة، وهم واحد، ورؤية واحدة، ووجع واحد، وأمل واحد، ونصر واحد. وتجاوز واحد للأزمة.
بيروت... معزوفة الجراح السرمدية، ومنتهى الدمع القديم، تتشح اليوم بسواد واحد، وتبكي بعيون واحدة، وتتوجع من ألم واحد. ومع ذلك لا تستنصر بيروت عربياً واحدا، كان «نصر الله» من الصدق بمكان أن رفض الرهان على العرب كافة، راهن الرجل على اللبنانيين منذ البدء، وقال: «نعيش مغامراتنا منذ الثمانينات، وحققنا النصر، دعونا نعيش مغامراتنا... وعيشوا عقولكم!».
عادل مرزوق
إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"العدد 1408 - الجمعة 14 يوليو 2006م الموافق 17 جمادى الآخرة 1427هـ